اليسار الفلسطيني وتاريخ الفشل

24 مارس 2017
+ الخط -
لو لم تصف أحزاب اليسار الفلسطيني نفسها باليسارية، ولو لم تكن برامجها الداخلية تقول إنها أحزاب للطبقة العاملة، فليس هناك حاجة لتأمل أحوالها، لمعرفة تاريخ يساريتها الفاشل، وكشف أوهامها المعلنة والخفية. المعروف أن هذه الأحزاب تشمل أساساً الجبهتين، الشعبية والديمقراطية لتحرير فلسطن، وجبهتي النضال الشعبي والتحرير الفلسطينية، وهما جبهتان لم يذهب بهما الوهم بعيداً في ادعاء الصفة اليسارية، وقد انشقتا على نفسيهما، إلى درجةٍ صار من الصعب رؤيتهما بالعين المجردة. وأما الحزب الشيوعي الفلسطيني المنشق على نفسه، أكثر من مرة، وتحوله إلى حزب الشعب، وانشقاقه، أو تحول بعضه إلى صيغةٍ أشبه بالمنظمات غير الحكومية، فقد اختفى من الفعل السياسي، واقتصر دوره فيما تسمى المبادرة الوطنية على تلقي الدعم من الدول الغربية المانحة، وتهيئة زعيمه لمنصب وزاري في السلطة أو رئاستها. وخارج هذه الفصائل، عرفت الحركة الوطنية الفلسطينية تيارات يسارية داخل حركة فتح، أكبر الحركات الفلسطينية في سنوات السبعينات، فنشأ في هذه الحركة تياران يساريان بارزان، بأتباع ومريدين. الأول كان من رموزه الشهيد ماجد أبو شرار وعضو اللجنة المركزية نمر الصالح أبو صالح وقياديون آخرون، وكانت تربطهم علاقات وثيقة بالنهج السوفييتي الذي كان يمر في مرحلة تآكله واحتضاره. وقد انتهى هذا التيار إثر اغتيال أبو شرار، ثم بالانشقاق الذي دبرته المخابرات السورية داخل فتح عام 1983، ووقوع بعض كوادره في الفخ السوري. التيار الثاني هو ذلك ملتبس الهوية الآيديولوجية، وقاده في حركة فتح منير شفيق، تروتسكي البدايات والمتحول إلى الماوية لاحقاً، فوصلت تأثيراته إلى عدد لا بأس به من الكوادر في وسط الطلاب خصوصا. وما أن انتصرت الثورة الشعبية في إيران في نهاية السبعينات، وهيمن آيات الله على السلطة، حتى تحول منير شفيق، الفلسطيني من أصول مسيحية واليساري إلى مفكر إسلامي، ما أدى إلى انهيار تياره، مع محافظة بعض كوادره على أفكاره ورؤيته حول الإسلام، خيارا وحلا للمشكلات الوطنية والطبقية الكبرى.
وإلى هذين التيارين في "فتح" التيار الذي وُصف بالتيار الفيتنامي في الاشتراكية، والذي لم يكتب له النجاح، ذلك أن فيتنام نفسها لم يكتب لها النجاح، لتشق طريقاً مستقلاً في الاشتراكية.
ولعل مأزق اليسار الفلسطيني كان، منذ نشأته، يكمن في عدم إدراكه المتواضع لذاته، وعدم فهمه النظرية الاشتراكية، فالجبهة الشعبية التي انبثقت من حركة القوميين العرب عانت، منذ بدايتها، من انشقاق تيار توهم ماركسية عرجاء، فانفصل نايف حواتمة، ومعه ثلة من الواهمين، وأسسوا الجبهة الديمقراطية التي حافظت، في ظل غيبوبتها الفكرية منذ عام 1969، على منهجيتها التابعة للمعسكر السوفييتي الوهمي، ثم انشقت، وظهر ما يسمى حزب (فدا) الذي قاده ياسر عبد ربه، ومعه رهط من الكوادر الشباب، والذي انتهى به المطاف مجرد حزب لا في العير ولا النفير، غير محافظته على عضوية اللجنة التنفيذية. وقد تعرضت الجبهة الشعبية نفسها الى انشقاق قد يكون الأكثر إيلاماً في تاريخها عام 1972، وكان في ظاهره آيديولوجيا وسياسيا، لكن الواقع أثبت دوراً واضحاً للمخابرات السورية فيه. وإذا كان لتخريب القوى الخارجية أو انهيار المرجعيات الفكرية دورٌ في التاريخ الفاشل لليسار الفلسطيني، إلّا أن العوامل الداخلية هي الأساس في كل ذلك السقوط، فلم تمتلك تلك الفصائل أي ثقافةٍ جمعيةٍ معمقةٍ، تستند إلى دراية بالفكر الاشتراكي، وتطوره وملاءمته للمجتمعات، بحسب بناها الطبقية المختلفة. وقد أصيبت دائماً بالضياع بين التيارات الاشتراكية العالمية المتصارعة بين موسكو وبكين، لينتهي بها المطاف في أرذل العمر إلى أحضان الولي الفقيه في طهران.
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.