31 أكتوبر 2024
الشعبوية تجتاح المجال السياسي والإعلامي الفرنسي
تعيش فرنسا حالة من الركود السياسي، والجمود في الإصلاحات الكبرى لبنيات الدولة. وليس مصادفة احتلالها المرتبة 32 في تصنيف الشعوب الأكثر سعادة في العالم، بعيدة بمسافة كبيرة عن النرويج وسويسرا وفنلندا والسويد والدنمارك، بل تكشف استطلاعات الرأي أن أكثر من 80% من الفرنسيين مصابون بتشاؤم حاد.
وظل المتغيّر الوحيد الذي وشم جسد المشهد السياسي في فرنسا هو تداول السلطة بين اليمين واليسار، من دون الانخراط في أعمال تاريخية، تؤمن هامشا مريحا لاشتغال هياكل الدولة ومؤسساتها من دون خوف على اختلال وظائفها، وتعرّض التماسك الاجتماعي للتفكك، وهذا ما حذر منه وزير الخارجية الفرنسي السابق، هوبير فيدرين، عندما أشار، بالتزامن مع احتدام حملة الانتخابات الرئاسية، إلى أن فرنسا لن تستعيد تماسكها الاجتماعي والذهني إلا من خلال إصلاحات أساسية، ولن تتأتى هذه الإصلاحات المهيكلة عبر أنظمة المساعدات والديون، بل بالشغل والاستحقاق والتربية التي تحتاج إلى تحول عميق وجوهري.
وقد يؤدي التأخر في إطلاق جيلٍ جديدٍ من الإصلاحات الكبرى، على غرار ما حدث مع تأسيس الجمهورية الخامسة في العام 1958، إلى انقلابٍ جذري في المعادلات السياسية، لأن أجواء الإحباط واللامبالاة والسخط الواسع الذي بات يخترق ملايين الفرنسيين وفر الشروط الموضوعية لتَشكل خطاب شعبوي محافظ ومنغلق وانعزالي، وازدهاره وانتشاره، أمّن له بسرعة الأنصار والمؤيدين، وهذا ما تدل عليه حملات التنافس لخوض الانتخابات الرئاسية.
ووجدت الجبهة الوطنية في هشاشة الحزب الاشتراكي، وتشتت اليسار وانقسامه، وفي تضرّر الجمهوريين، بسبب التهم التي وجهت إلى مرشحهم، فرانسوا فيون، فرصة ثمينة، فمنذ تأسيس الجمهورية الخامسة 1958 ظل اليمين التقليدي، المؤمن بقيم الجمهورية من ديغول حتى ساركوزي، والاشتراكيون من فرانسوا متيران حتى فرانسوا هولاند الذي يلفظ أنفاسه السياسية الأخيرة، اللاعبين الأساسيين في المشهد السياسي الرسمي. والخطير أن يتعرّض الحزبان
لانتكاسةٍ غير مسبوقة، بأن لا يصلا معا إلى الدور الثاني، فمن المحتمل جدا أن تتقدّم ماري لوبان الصدامية، مرشحة الجبهة الوطنية، ومرشح حركة إلى الأمام، مانويل ماكرون، على باقي المتنافسين، ليصلا إلى الدور الثاني. وماكرون، الذكي والخجول في الوقت نفسه، هو الآخر يختزل خليطا من الأطروحات الهجينة تجمع في بوتقة واحدة بين الاشتراكية والليبرالية.
وبعيدا عن التأويلات والتكهنات، يمكن القول إن صعود أسهم ماري لوبان ومانويل ماكرون في المشهد الانتخابي الفرنسي دلالة على ظرفية دولية، تبين أن الخطاطة الكلاسيكية يمين/ يسار لم تعد ذات قوة تصمد في وجه المتغيرات الجارفة، لصالح ثنائية بديلة، تتمثل في خيار الانفتاح أو الانغلاق. وما زاد في ترسيخ هذا التفكير أن السخط الذي يعبر عنه الناخبون ضد الطبقة السياسية التي تولت تسيير الشأن العام، سواء من اليمين أو من اليسار الحكومي، إنما هو لأن هذه أخلّت بوعودها وفسخت تعاقداتها وميثاقاتها، فانعكس ذلك على صورة الأحزاب السياسية التي تنتمي إليها، ومكانة هذه الأحزاب وقوتها ومصداقيتها. كما أن صعود اليمين المتطرّف في فرنسا، أكثر من أي وقت مضى، يتزامن مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في استفتاء البريكست، ووصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وامتدادات الأزمات في الشرق الأوسط، الحروب السورية والعراقية واليمنية والليبية، والتي أحدثت تشرد ملايين اللاجئين الذين تدافع آلاف منهم إلى أوروبا، ما أثار حفيظة القوميين المتطرفين، ودفع الأحزاب اليمينية المحافظة إلى التفكير بتشريعات جديدة لاحتواء موجات اللاجئين، والوقوف في مواجهة "مهاجرين يلطخون الأوطان ويرهبون السكان". وذلك فضلا عن أن الهجمات الإرهابية التي ضربت دولاً أوروبية، فرنسا وبلجيكا وألمانيا خصوصا، أنعشت خطاب الإسلاموفوبيا. وتضاف هذه العوامل إلى الاستياء الواسع الذي أصاب الفرنسيين، جرّاء الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية التي طبقتها الحكومة الاشتراكية، عبر سياساتها العمومية، وعدم وفائها بالوعود الانتخابية التي قطعها هولاند على نفسه.
ومن منطلق أن الجبهة الوطنية تراهن على خطابٍ وجداني، يعزف على الأوتار الحسّاسة، فقد وجدت، في هذه المعطيات، المجال الأرحب، والتربة الخصبة لزرع الأوهام، ونشر استيهامات سياسية وقومية ووعود اقتصادية، يصعب تطبيقها وترجمتها في شكل إجراءات وتدابير وسياسات قطاعية، وهذا كله في إطار شعبوي تبسيطي فج.
ويتقاسم كل الفاعلين السياسيين العوامل التي جعلت الفرنسيين يصابون بخيبة الأمل والتذمر، وهذا ما عبر عنه المرشحون الأساسيون في الانتخابات الرئاسية المرتقبة في إبريل/ نيسان المقبل، في أثناء المناظرة التي شاركوا فيها يوم 20 مارس/ آذار الجاري، واستغرقت أكثر من ثلاث ساعات، وبثت مباشرةً على قناتين تابعتين للقطاع الخاص، غير أن الجبهة الوطنية توظف هذه العوامل بطريقةٍ تحريضيةٍ، فزعيمتها الملهمة والاستثنائية، مارين لوبان، التي رفعت من مستوى التعبئة، وبرمجت سلسلة لقاءاتٍ في عدد من المدن والمناطق، أطلقت العنان للكلام الفضفاض والسهل، وزجّت شرائح يائسة من الفرنسيين في حالةٍ من التخدير الجماعي، خصوصا أنها تحتل المراتب الأولى في استطلاعات الرأي، في مجتمعٍ عرف بإنتاج الأفكار والمفكرين، وشكل المهد التاريخي الذي ولدت فيه فلسفة الأنوار والمذاهب الفكرية والفنية والأدبية الكبرى.
وعلى الرغم من أن فريق لوبان السياسي والإعلامي يعمل على تلطيف خطابها ومحاولة إيهام الفرنسيين بأن الجبهة حزبٌ مثل باقي الأحزاب، ينهل من المرجعية التاريخية والوطنية نفسها، فإن لوبان تميل إلى كسب ود الحانقين، وتكنّ حقدا خاصا للمهاجرين والإسلام، ليس دينا فحسب، بل ثقافة ومكوناً اجتماعياً وجماعياً.
الغريب والمفارق أن ماري لوبان، على الرغم من كل الحملات وعمليات التواصل السياسي
التي سعت إلى إبراز (وتعرية) مخاطرها وتداعياتها السلبية، فإن نجمها سطع بقوة، وارتفعت قيمة أسهمها في بورصة السياسة والإعلام، ولم تنفع عمليات الشيطنة المنظمة التي قام بها اليسار واليمين التقليدي في لجم اندفاعها، وكبح طموحاتها السياسية، بل هي تعتبر نفسها حزبا عاديا غير متطرّف، خصوصا في سياق سوسيو- سياسي، استفحل فيه الخطاب المغذّي للعنصرية والكراهية، ولم يعد يثير حنقا، ولا تسفيها، في فرنسا. وهذا ربما يشرح لنا ما استثمرته الجبهة، في مجال التواصل بذكاء لتطبيع صورتها وتسويق تصوراتها. ولا غرابة في أن تحظى البرلمانية الشابة، مارشال لوبان، وهي من عائلتها، بجاذبية وباهتمام كبير في أوساط اليمين المتطرّف، وحتى في قسم كبير من اليمين التقليدي، لما تثيره من آمال عريضة غير معللة، وغير قابلة للتفسير. وهي، على غرار عمّتها، متشدّدة تجاه الإسلام وكاثوليكية محافظة، وإن كانت تعتنق الفكر الليبرالي على طريقتها. وقد صدر، أخيرا، كتابٌ لميشيل هنري، تشرح فيه هذه المرأة الظاهرة التي تجمع كل التناقضات، فهي تسعى إلى خدمة أصحاب المقاولات الصغرى والتجار والعمال، علما أنها تنتمي إلى وسط بورجوازي.
ولا تبتعد لوبان عن شعارَي "أميركا أولا" و"بريطانيا أولا"، فهي تعمل من أجل اللحاق بهذا المذهب الجديد، ليصبح شعار"فرنسا أولا" ترجمةً للعنوان البارز الذي اختارته لحملتها "باسم الشعب"، مستغلةً في ذلك الأزمات الاقتصادية التي ألمّت بعدد من الدول الأوروبية، وتعرّض الطبقات المتوسطة وطبقة الشغيلة لضرباتٍ موجعة، أجهزت على قدرتها الشرائية، كما أن الاحتباس الديمقراطي في الغرب ساهم في ازدهار الشعبوية والوطنية المتعصبة والانعزالية، وبروز الفاعل السياسي الشعبوي القادر على تأجيج المشاعر الوطنية والقومية بلا حدود.
ومن بين أخطر الممارسات التواصلية الربط بذكاء ومكر بين الأزمات الداخلية، وتدفق اللاجئين وتزايد الهجرة وعضوية فرنسا في الاتحاد الأوروبي، حيث ترى لوبان أنه كانت لهذه العضوية آثار سلبية على عيش الفرنسيين وجودة حياتهم. ولذلك، تطرح، في حال فوزها بمنصب الرئاسة، إعادة النظر في مسلماتٍ سياسيةٍ وسياديةٍ ودستورية، وفي التزامات اقتصادية وجيو-سياسية، بما في ذلك تنظيم استفتاء لتقرير مصير انتماء فرنسا إلى منطقة اليورو.
ويلاحظ لجوء الجبهة الوطنية إلى إستراتيجية تواصلية جديدة، خصوصا مع ماري لوبان، تستند إلى استعمال خطاب اجتماعي تضليلي، لجذب الفئات الشعبية المتذمرة، إلى جانب السطو على قيمة التضامن الذي هو من صميم قيم الجمهورية التي تضمنها إعلان حقوق الإنسان الصادر 1789، ويأخذ معنىً غامضا لدى الجبهة، هو اختيار يترجم أن أقطاب اليمين أصبحوا يدركون أن المجال الاجتماعي، بهشاشته، إلى جانب تراجع نسبة الاهتمام بالسياسة في المجتمع الفرنسي، فرصة لا تعوّض لتحقيق اكتساح غير مسبوق في تاريخ الاستحقاقات الانتخابية التي عرفتها فرنسا.
ولإضفاء الصدقية على هذا التوجه الاجتماعي، ترافع الجبهة الوطنية عن أطروحة الاقتصاد الشعبوي، بالتركيز على فكرة "قليل من الليبرالية في الخارج كثير منها في الداخل". ويتعلق
الأمر هنا بليبرالية محافظة، وبمذهب اجتماعي شعبوي، فالجبهة الوطنية في فرنسا تهدف إلى بناء شعبٍ مثاليٍّ منسجم ومنمط، من دون تمايزات أو اختلافات، سواء تعلق الأمر بالنوع أو الطبقة. وعندما اختارت ماري لوبان شعار "باسم الشعب" لبرنامجها الانتخابي لخوض رئاسيات 2017، فإن الجبهة الوطنية، في ذلك، تدعو الشعب الفرنسي إلى مجابهة ما تصفه بالأوليغارشية السياسية والمالية وتهديدات العولمة. كما تريد، بتوظيفها هذا الشعار استقطاب فئاتٍ عريضةٍ من الغاضبين والمحبطين من سياسات الاشتراكيين الذين نجحوا أكثر في تفكيك تماسك الحزب الاشتراكي الحاكم. ويتكون معسكر الغاضبين والساخطين من عمال دائمين ومؤقتين ومستخدمين وشباب هش ضعيف التكوين وغير مؤهل. وتعد الجبهة ببيروقراطية أقل، وبتخفيض الضرائب على الشركات، ولا تتوانى في التهجم على الناخبين البورجوازيين، لتبرير انزياحها الإيديولوجي، مدافعةً عن الطبقات الشعبية المتضرّرة.
ويقوم مشروع الجبهة الوطنية السياسي والانتخابي على الانسجام وصفاء الجسم الاجتماعي من أي عنصر أجنبي دخيل، ما يعني توحيد الفرنسيين وتجميعهم، من اليمين واليسار، وعبر مختلف المدن والمناطق، من المعمل إلى المكتب، وهذه معادلة أساسية تعزف عليها ماري لوبان، في برنامجها الانتخابي الذي يتألف من 144 إجراء، تتقدّم فقراته ضرورة سحب قانون العمل الذي أعدته ورافعت عنه الوزيرة الاشتراكية من أصل مغربي، مريم الخمري، والعودة إلى نظام 35 ساعة عمل، وتحديد سن التقاعد في 60 عاما. وتركز الجبهة خطابها على قضايا حساسة بالنسبة للطبقات الشعبية التي كانت، في الأصل، متعاطفةً مع الاشتراكيين أو الشيوعيين، مثل العدالة الاجتماعية والمساواة في الأجور بين النساء والرجال. وتغذّي خطابها بجرعة من ليبرالية براغماتية، من قبيل تخفيف المساطر والإجراءات المتعلقة بالمقاولات، وتحرير القروض، وغيرها من "الأوهام" التي تعرض مجانا. وهكذا، تسعى الجبهة إلى استقطاب جزء من ناخبي فرانسوا فيون، مرشح اليمين ويمين الوسط، والذي اهتزّت صورته، وتراجعت شعبيته، بسبب تهم التوظيفات الوهمية لزوجته وأبنائه.
وقد أصبح التخوف من زحف التيارات الشعبوية، واكتساحها المجال السياسي العمومي، يشكل تحديا كبيرا لكل الدول الأوروبية، فعلى الرغم من عدم تمكّن اليمين من الظفر بالانتخابات التشريعية التي جرت، أخيرا، في هولندا، وقبلها في النمسا، فإن ما يحدث في دول أخرى معروفة بمركزيتها في القارة العجوز، كفرنسا وإيطاليا، حمل المسؤولين الكبار في مؤسسات الاتحاد الأوروبي على دقّ ناقوس الخطر. وهذا ما كشف عنه رئيس البرلمان الأوربي الإيطالي، أنطونيو تاجاني، الذي اعتبر أن أحسن رد على الشعبويات (بصيغة الجمع) هو أوروبا الأعمال والمشاريع، مبرزا أن المشروع الأوروبي لم يكن بعيدا عن شعوبه أكثر مما هو حاصل اليوم، فالوقت، حسب رأيه، كما عبر عنه في صحيفة لوموند الفرنسية الرصينة، في 19 مارس/ آذار 2017، ليس للتفرقة والانقسام، ولا هو للتنصّل من الأخطاء والزلات، برميها على مؤسسات وحكومات أخرى، بل الوقت هو للتحلي بالشجاعة في تحمل المسؤولية، لإيجاد حلول مشتركة لصالح مواطني الاتحاد الأوروبي، للحد من البطالة، كما نحتاج إلى أوروبا أكثر تنافسية، وميثاقا للأجيال، يضاف إلى ميثاق الاستقرار والنمو، فلا يمكن أن نترك ديونا متراكمة تثقل كاهل شبابنا، واقتصاداً غير ملائم لإيجاد فرص الشغل.
اقترح المسؤول الأوروبي، وهو يستحضر في ذهنه الكوابيس الكثيرة للشعبويات الكاسحة للأحلام والقيم الكبرى، عددا من الإجراءات، من قبيل سن سياسة محفزة على الاستثمار وتقوية الحوكمة الاقتصادية الأوروبية، لإقامة تقارب حقيقي بين اقتصاديات الدول الأوروبية، تبسيط المساطر لتفادي خنق المقاولات والمواطنين، وهكذا، حسب رأيه، سيجني اليورو فوائد كبيرة.
وظل المتغيّر الوحيد الذي وشم جسد المشهد السياسي في فرنسا هو تداول السلطة بين اليمين واليسار، من دون الانخراط في أعمال تاريخية، تؤمن هامشا مريحا لاشتغال هياكل الدولة ومؤسساتها من دون خوف على اختلال وظائفها، وتعرّض التماسك الاجتماعي للتفكك، وهذا ما حذر منه وزير الخارجية الفرنسي السابق، هوبير فيدرين، عندما أشار، بالتزامن مع احتدام حملة الانتخابات الرئاسية، إلى أن فرنسا لن تستعيد تماسكها الاجتماعي والذهني إلا من خلال إصلاحات أساسية، ولن تتأتى هذه الإصلاحات المهيكلة عبر أنظمة المساعدات والديون، بل بالشغل والاستحقاق والتربية التي تحتاج إلى تحول عميق وجوهري.
وقد يؤدي التأخر في إطلاق جيلٍ جديدٍ من الإصلاحات الكبرى، على غرار ما حدث مع تأسيس الجمهورية الخامسة في العام 1958، إلى انقلابٍ جذري في المعادلات السياسية، لأن أجواء الإحباط واللامبالاة والسخط الواسع الذي بات يخترق ملايين الفرنسيين وفر الشروط الموضوعية لتَشكل خطاب شعبوي محافظ ومنغلق وانعزالي، وازدهاره وانتشاره، أمّن له بسرعة الأنصار والمؤيدين، وهذا ما تدل عليه حملات التنافس لخوض الانتخابات الرئاسية.
ووجدت الجبهة الوطنية في هشاشة الحزب الاشتراكي، وتشتت اليسار وانقسامه، وفي تضرّر الجمهوريين، بسبب التهم التي وجهت إلى مرشحهم، فرانسوا فيون، فرصة ثمينة، فمنذ تأسيس الجمهورية الخامسة 1958 ظل اليمين التقليدي، المؤمن بقيم الجمهورية من ديغول حتى ساركوزي، والاشتراكيون من فرانسوا متيران حتى فرانسوا هولاند الذي يلفظ أنفاسه السياسية الأخيرة، اللاعبين الأساسيين في المشهد السياسي الرسمي. والخطير أن يتعرّض الحزبان
وبعيدا عن التأويلات والتكهنات، يمكن القول إن صعود أسهم ماري لوبان ومانويل ماكرون في المشهد الانتخابي الفرنسي دلالة على ظرفية دولية، تبين أن الخطاطة الكلاسيكية يمين/ يسار لم تعد ذات قوة تصمد في وجه المتغيرات الجارفة، لصالح ثنائية بديلة، تتمثل في خيار الانفتاح أو الانغلاق. وما زاد في ترسيخ هذا التفكير أن السخط الذي يعبر عنه الناخبون ضد الطبقة السياسية التي تولت تسيير الشأن العام، سواء من اليمين أو من اليسار الحكومي، إنما هو لأن هذه أخلّت بوعودها وفسخت تعاقداتها وميثاقاتها، فانعكس ذلك على صورة الأحزاب السياسية التي تنتمي إليها، ومكانة هذه الأحزاب وقوتها ومصداقيتها. كما أن صعود اليمين المتطرّف في فرنسا، أكثر من أي وقت مضى، يتزامن مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في استفتاء البريكست، ووصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وامتدادات الأزمات في الشرق الأوسط، الحروب السورية والعراقية واليمنية والليبية، والتي أحدثت تشرد ملايين اللاجئين الذين تدافع آلاف منهم إلى أوروبا، ما أثار حفيظة القوميين المتطرفين، ودفع الأحزاب اليمينية المحافظة إلى التفكير بتشريعات جديدة لاحتواء موجات اللاجئين، والوقوف في مواجهة "مهاجرين يلطخون الأوطان ويرهبون السكان". وذلك فضلا عن أن الهجمات الإرهابية التي ضربت دولاً أوروبية، فرنسا وبلجيكا وألمانيا خصوصا، أنعشت خطاب الإسلاموفوبيا. وتضاف هذه العوامل إلى الاستياء الواسع الذي أصاب الفرنسيين، جرّاء الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية التي طبقتها الحكومة الاشتراكية، عبر سياساتها العمومية، وعدم وفائها بالوعود الانتخابية التي قطعها هولاند على نفسه.
ومن منطلق أن الجبهة الوطنية تراهن على خطابٍ وجداني، يعزف على الأوتار الحسّاسة، فقد وجدت، في هذه المعطيات، المجال الأرحب، والتربة الخصبة لزرع الأوهام، ونشر استيهامات سياسية وقومية ووعود اقتصادية، يصعب تطبيقها وترجمتها في شكل إجراءات وتدابير وسياسات قطاعية، وهذا كله في إطار شعبوي تبسيطي فج.
ويتقاسم كل الفاعلين السياسيين العوامل التي جعلت الفرنسيين يصابون بخيبة الأمل والتذمر، وهذا ما عبر عنه المرشحون الأساسيون في الانتخابات الرئاسية المرتقبة في إبريل/ نيسان المقبل، في أثناء المناظرة التي شاركوا فيها يوم 20 مارس/ آذار الجاري، واستغرقت أكثر من ثلاث ساعات، وبثت مباشرةً على قناتين تابعتين للقطاع الخاص، غير أن الجبهة الوطنية توظف هذه العوامل بطريقةٍ تحريضيةٍ، فزعيمتها الملهمة والاستثنائية، مارين لوبان، التي رفعت من مستوى التعبئة، وبرمجت سلسلة لقاءاتٍ في عدد من المدن والمناطق، أطلقت العنان للكلام الفضفاض والسهل، وزجّت شرائح يائسة من الفرنسيين في حالةٍ من التخدير الجماعي، خصوصا أنها تحتل المراتب الأولى في استطلاعات الرأي، في مجتمعٍ عرف بإنتاج الأفكار والمفكرين، وشكل المهد التاريخي الذي ولدت فيه فلسفة الأنوار والمذاهب الفكرية والفنية والأدبية الكبرى.
وعلى الرغم من أن فريق لوبان السياسي والإعلامي يعمل على تلطيف خطابها ومحاولة إيهام الفرنسيين بأن الجبهة حزبٌ مثل باقي الأحزاب، ينهل من المرجعية التاريخية والوطنية نفسها، فإن لوبان تميل إلى كسب ود الحانقين، وتكنّ حقدا خاصا للمهاجرين والإسلام، ليس دينا فحسب، بل ثقافة ومكوناً اجتماعياً وجماعياً.
الغريب والمفارق أن ماري لوبان، على الرغم من كل الحملات وعمليات التواصل السياسي
ولا تبتعد لوبان عن شعارَي "أميركا أولا" و"بريطانيا أولا"، فهي تعمل من أجل اللحاق بهذا المذهب الجديد، ليصبح شعار"فرنسا أولا" ترجمةً للعنوان البارز الذي اختارته لحملتها "باسم الشعب"، مستغلةً في ذلك الأزمات الاقتصادية التي ألمّت بعدد من الدول الأوروبية، وتعرّض الطبقات المتوسطة وطبقة الشغيلة لضرباتٍ موجعة، أجهزت على قدرتها الشرائية، كما أن الاحتباس الديمقراطي في الغرب ساهم في ازدهار الشعبوية والوطنية المتعصبة والانعزالية، وبروز الفاعل السياسي الشعبوي القادر على تأجيج المشاعر الوطنية والقومية بلا حدود.
ومن بين أخطر الممارسات التواصلية الربط بذكاء ومكر بين الأزمات الداخلية، وتدفق اللاجئين وتزايد الهجرة وعضوية فرنسا في الاتحاد الأوروبي، حيث ترى لوبان أنه كانت لهذه العضوية آثار سلبية على عيش الفرنسيين وجودة حياتهم. ولذلك، تطرح، في حال فوزها بمنصب الرئاسة، إعادة النظر في مسلماتٍ سياسيةٍ وسياديةٍ ودستورية، وفي التزامات اقتصادية وجيو-سياسية، بما في ذلك تنظيم استفتاء لتقرير مصير انتماء فرنسا إلى منطقة اليورو.
ويلاحظ لجوء الجبهة الوطنية إلى إستراتيجية تواصلية جديدة، خصوصا مع ماري لوبان، تستند إلى استعمال خطاب اجتماعي تضليلي، لجذب الفئات الشعبية المتذمرة، إلى جانب السطو على قيمة التضامن الذي هو من صميم قيم الجمهورية التي تضمنها إعلان حقوق الإنسان الصادر 1789، ويأخذ معنىً غامضا لدى الجبهة، هو اختيار يترجم أن أقطاب اليمين أصبحوا يدركون أن المجال الاجتماعي، بهشاشته، إلى جانب تراجع نسبة الاهتمام بالسياسة في المجتمع الفرنسي، فرصة لا تعوّض لتحقيق اكتساح غير مسبوق في تاريخ الاستحقاقات الانتخابية التي عرفتها فرنسا.
ولإضفاء الصدقية على هذا التوجه الاجتماعي، ترافع الجبهة الوطنية عن أطروحة الاقتصاد الشعبوي، بالتركيز على فكرة "قليل من الليبرالية في الخارج كثير منها في الداخل". ويتعلق
ويقوم مشروع الجبهة الوطنية السياسي والانتخابي على الانسجام وصفاء الجسم الاجتماعي من أي عنصر أجنبي دخيل، ما يعني توحيد الفرنسيين وتجميعهم، من اليمين واليسار، وعبر مختلف المدن والمناطق، من المعمل إلى المكتب، وهذه معادلة أساسية تعزف عليها ماري لوبان، في برنامجها الانتخابي الذي يتألف من 144 إجراء، تتقدّم فقراته ضرورة سحب قانون العمل الذي أعدته ورافعت عنه الوزيرة الاشتراكية من أصل مغربي، مريم الخمري، والعودة إلى نظام 35 ساعة عمل، وتحديد سن التقاعد في 60 عاما. وتركز الجبهة خطابها على قضايا حساسة بالنسبة للطبقات الشعبية التي كانت، في الأصل، متعاطفةً مع الاشتراكيين أو الشيوعيين، مثل العدالة الاجتماعية والمساواة في الأجور بين النساء والرجال. وتغذّي خطابها بجرعة من ليبرالية براغماتية، من قبيل تخفيف المساطر والإجراءات المتعلقة بالمقاولات، وتحرير القروض، وغيرها من "الأوهام" التي تعرض مجانا. وهكذا، تسعى الجبهة إلى استقطاب جزء من ناخبي فرانسوا فيون، مرشح اليمين ويمين الوسط، والذي اهتزّت صورته، وتراجعت شعبيته، بسبب تهم التوظيفات الوهمية لزوجته وأبنائه.
وقد أصبح التخوف من زحف التيارات الشعبوية، واكتساحها المجال السياسي العمومي، يشكل تحديا كبيرا لكل الدول الأوروبية، فعلى الرغم من عدم تمكّن اليمين من الظفر بالانتخابات التشريعية التي جرت، أخيرا، في هولندا، وقبلها في النمسا، فإن ما يحدث في دول أخرى معروفة بمركزيتها في القارة العجوز، كفرنسا وإيطاليا، حمل المسؤولين الكبار في مؤسسات الاتحاد الأوروبي على دقّ ناقوس الخطر. وهذا ما كشف عنه رئيس البرلمان الأوربي الإيطالي، أنطونيو تاجاني، الذي اعتبر أن أحسن رد على الشعبويات (بصيغة الجمع) هو أوروبا الأعمال والمشاريع، مبرزا أن المشروع الأوروبي لم يكن بعيدا عن شعوبه أكثر مما هو حاصل اليوم، فالوقت، حسب رأيه، كما عبر عنه في صحيفة لوموند الفرنسية الرصينة، في 19 مارس/ آذار 2017، ليس للتفرقة والانقسام، ولا هو للتنصّل من الأخطاء والزلات، برميها على مؤسسات وحكومات أخرى، بل الوقت هو للتحلي بالشجاعة في تحمل المسؤولية، لإيجاد حلول مشتركة لصالح مواطني الاتحاد الأوروبي، للحد من البطالة، كما نحتاج إلى أوروبا أكثر تنافسية، وميثاقا للأجيال، يضاف إلى ميثاق الاستقرار والنمو، فلا يمكن أن نترك ديونا متراكمة تثقل كاهل شبابنا، واقتصاداً غير ملائم لإيجاد فرص الشغل.
اقترح المسؤول الأوروبي، وهو يستحضر في ذهنه الكوابيس الكثيرة للشعبويات الكاسحة للأحلام والقيم الكبرى، عددا من الإجراءات، من قبيل سن سياسة محفزة على الاستثمار وتقوية الحوكمة الاقتصادية الأوروبية، لإقامة تقارب حقيقي بين اقتصاديات الدول الأوروبية، تبسيط المساطر لتفادي خنق المقاولات والمواطنين، وهكذا، حسب رأيه، سيجني اليورو فوائد كبيرة.