28 أكتوبر 2024
الغنوشي وفائض الدبلوماسية النشيطة
ارتفعت، في الأيام الأخيرة، عدة أصوات محسوبة على المعارضة التونسية، محتجةً على الحضور المكثف للشيخ راشد الغنوشي في المحافل الدبلوماسية، بعد زيارته للجزائر ولقائه هناك الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، ويبدو أن الشأن الليبي كان في مقدمة محادثاتهما. وكذا حضوره منتدى دافوس الدولي أخيراً. هذا من دون أن ينسى له معارضوه زياراته السابقة دولا عربية وإسلامية وحتى أجنبية، قطر والعربية السعودية وتركيا وفرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة... إلخ. والاعتراضات التي يقدمها هؤلاء عديدة، ويمكن إيجازها في ثلاثة أساسية:
أولها أن الشيخ الغنوشي يتجاوز، في كل ما يقوم به، الدولة التونسية و"يتعدّى" بتلك الأنشطة على السيادة التونسية، حين يختص لنفسه بجهدٍ كان من المفروض أن تقوم به الدولة. وهو بهذا ينازعها، بل يستولي على إحدى مهامها، وخصوصا أن الدستور خصّ رئيس الجمهورية بتمثيل الدولة التونسية في الخارج، وكل ما له صلة بالعلاقات مع الدول الأجنبية.
الاعتراض الثاني، يذهب الفيء السياسي لهذا الجهد للشيخ راشد الغنوشي شخصيا، وحركة النهضة بشكل عام. لذلك، هذه اليبلوماسية الموازية استثمار شخصي تحت "لافتة الدولة التونسية".
الاعتراض الثالث والأخير تدخل الغنوشي في كل تلك التحركات لفائدة الإسلام السياسي، وأساسا تخفيف الضغوط المسلطة على حركة الإخوان المسلمين، وتحديدا في ليبيا ومصر. ويذهب بعضهم إلى أن هذه الاجتهادات غير المدروسة جلبت أحيانا لتونس مشكلاتٍ على غرار ما جرى من "تلاسن" بين الغنوشي ووزير الخارجية المصري الأسبق، عمرو موسى، في أثناء منتدى دافوس، حيث لا يزال الشيخ يعتقد أن ما جرى في مصر كان انقلابا على الشرعية، على الرغم من حرصه على التوسط بين الفرقاء المصريين من أجل مصالحة حقيقية تحقن الدماء، وتساهم في إرساء وئام مدني يحفظ أمن مصر وحقوق مواطنيها.
دخل الإعلام التونسي على الخط وجعل هذا "النشاط الدبلوماسي" موضوعا له خلال النقاشات
الجارية حاليا في مختلف الإذاعات والقنوات التلفزية، حتى كادت تلك الجهود تتحول إلى تهمة تستوجب محاكمات شعبية وقانونية.
وقلما أجاب الغنوشي على تلك الاعتراضات. ولكن، عند الضرورة، أكد في تصريحات قليلة ومقتضبة، أن جهوده تلك تندرج في دبلوماسية شعبية، يقوم بها هو أو غيره، في سبيل معاضدة جهد الدولة التونسية لحل بعض المشكلات العالقة، الوطنية والإقليمية، ما لا يتناقض مع الأعراف والسنن الديبلوماسية المعروفة، والتي هي شأن الدولة التونسية وحدها. والسبب الثاني الذي يقدمه الشيخ أنه، في تحركاته، كان ينسق مع رئيس الدولة ويستشيره في أهم التوجهات والمواقف التي يعبر عنها الرجل. وقد أعاد القيادي في "النهضة"، المكلف بالشؤون الخارجية في "النهضة"، رفيق عبد السلام، في أكثر من مقام، هذه الحجج.
والغريب أن تلك الانتقادات تصمت، حين تبادر قيادات سياسية أخرى منتمية إلى فصائل المعارضة، وحتى إلى الحزب الحاكم بالقيام بمبادرات شبيهة، ولعلنا نتذكّر زيارات زعامات الجبهة الشعبية، مثلاً، إلى سورية، حيث التقت بشار الأسد، وعبرت له عن مساندتها التامة له، في حين أن الدولة التونسية ما زالت محافظةً على قطع العلاقات الدبلوماسية مع النظام السوري، بل تعتزم هذه القيادات القيام بزيارة "رفيعة المستوى" لتهنئته بالانتصار، وتجديد الدعم له.
وفيما يثيره منتقدو الشيخ راشد الغنوشي كثير من ازدواجية المعايير، ولو أتيحت لهم الإمكانات نفسها، لفعلوا أكثر منه. لذلك، تعتقد "النهضة" أنهم يودون لو أن لهم ما لديها من "رأسمال علائقي" راكمته من محنة المنفى الطويلة، وتجربة الحكم العسيرة، فضلا عن رصيدها الأدبي والأخلاقي الذي بنته من خلال تجربة التوافق لإنجاح الانتقال الديمقراطي في تونس.
ومع ذلك، وبقطع النظر عن أحقيّة الشيخ راشد الغنوشي في القيام بهذا الجهد وشرعيته، يؤشر الأمر إلى أزمة حقيقية، تمر بها الدبلوماسية التونسية الرسمية، وهي متواصلة منذ سنوات. وكان حزب نداء تونس (الحاكم) والرئيس الباجي السبسي، قد وعدا، في حملتيهما الانتخابيتين
سنة 2014، بضخ دماء جديدة في هذه الدبلوماسية المريضة، غير أن الأمر غدا أسوأ مما كان عليه في عهد الترويكا، إذ لم تستطع الدبلوماسية التونسية استرجاع الحد الأدنى من حرارة العلاقات الدبلوماسية مع دولة الإمارات التي بات معروفاً أنها تفرض شروطا مهينة، لو تم القبول بها، فضلا على تدخلها السافر في الشأن التونسي، كما أن تونس انسحبت تقريباً من معظم الملفات الإقليمية، وأهمها الليبي الذي ظلت تلاحقه من بعيد، على خلاف حيوية الجهود المغربية والجزائرية والمصرية. كما عجزت هذه الدبلوماسية عن فعل شيء ملموس في معظم الملفات الاقتصادية المطروحة (الاستثمار، استرجاع الأموال المنهوبة...).
هذه الإخفاقات الوظيفية التي حلت بالدبلوماسية التونسية هي التي أتاحت الفرصة لحركة الشيخ راشد الغنوشي، متداركا تلك النقائص تارة، ومقترحا مبادرات جديدة تارة أخرى، إذ تقول القاعدة إن هامش اللاشكلي يتسع كلما ضيّق الرسمي على نفسه.
ستكون النتائج الملموسة التي ستتمخض عنها هذه التحرّكات مقياسا لعديدين من خصوم الشيخ راشد، حتى يرموا الحجر الذي في أيديهم، من قبيل تجسيد المصالحة الليبية، وخصوصا عودة الاستثمار والسياحة بشكل ملحوظ، فكثيرون من خصوم الرجل ينتظرون إنجازات على أرض الواقع، للحكم على مساعيه، وهم يتمنون ألا يحدث ذلك أبدا، لتأبيد العداء له ولحركته، وإيجاد ذرائع للإجهاز عليه، رمزيا، حتى لو كان ذلك ضد مصلحة البلاد.
أولها أن الشيخ الغنوشي يتجاوز، في كل ما يقوم به، الدولة التونسية و"يتعدّى" بتلك الأنشطة على السيادة التونسية، حين يختص لنفسه بجهدٍ كان من المفروض أن تقوم به الدولة. وهو بهذا ينازعها، بل يستولي على إحدى مهامها، وخصوصا أن الدستور خصّ رئيس الجمهورية بتمثيل الدولة التونسية في الخارج، وكل ما له صلة بالعلاقات مع الدول الأجنبية.
الاعتراض الثاني، يذهب الفيء السياسي لهذا الجهد للشيخ راشد الغنوشي شخصيا، وحركة النهضة بشكل عام. لذلك، هذه اليبلوماسية الموازية استثمار شخصي تحت "لافتة الدولة التونسية".
الاعتراض الثالث والأخير تدخل الغنوشي في كل تلك التحركات لفائدة الإسلام السياسي، وأساسا تخفيف الضغوط المسلطة على حركة الإخوان المسلمين، وتحديدا في ليبيا ومصر. ويذهب بعضهم إلى أن هذه الاجتهادات غير المدروسة جلبت أحيانا لتونس مشكلاتٍ على غرار ما جرى من "تلاسن" بين الغنوشي ووزير الخارجية المصري الأسبق، عمرو موسى، في أثناء منتدى دافوس، حيث لا يزال الشيخ يعتقد أن ما جرى في مصر كان انقلابا على الشرعية، على الرغم من حرصه على التوسط بين الفرقاء المصريين من أجل مصالحة حقيقية تحقن الدماء، وتساهم في إرساء وئام مدني يحفظ أمن مصر وحقوق مواطنيها.
دخل الإعلام التونسي على الخط وجعل هذا "النشاط الدبلوماسي" موضوعا له خلال النقاشات
وقلما أجاب الغنوشي على تلك الاعتراضات. ولكن، عند الضرورة، أكد في تصريحات قليلة ومقتضبة، أن جهوده تلك تندرج في دبلوماسية شعبية، يقوم بها هو أو غيره، في سبيل معاضدة جهد الدولة التونسية لحل بعض المشكلات العالقة، الوطنية والإقليمية، ما لا يتناقض مع الأعراف والسنن الديبلوماسية المعروفة، والتي هي شأن الدولة التونسية وحدها. والسبب الثاني الذي يقدمه الشيخ أنه، في تحركاته، كان ينسق مع رئيس الدولة ويستشيره في أهم التوجهات والمواقف التي يعبر عنها الرجل. وقد أعاد القيادي في "النهضة"، المكلف بالشؤون الخارجية في "النهضة"، رفيق عبد السلام، في أكثر من مقام، هذه الحجج.
والغريب أن تلك الانتقادات تصمت، حين تبادر قيادات سياسية أخرى منتمية إلى فصائل المعارضة، وحتى إلى الحزب الحاكم بالقيام بمبادرات شبيهة، ولعلنا نتذكّر زيارات زعامات الجبهة الشعبية، مثلاً، إلى سورية، حيث التقت بشار الأسد، وعبرت له عن مساندتها التامة له، في حين أن الدولة التونسية ما زالت محافظةً على قطع العلاقات الدبلوماسية مع النظام السوري، بل تعتزم هذه القيادات القيام بزيارة "رفيعة المستوى" لتهنئته بالانتصار، وتجديد الدعم له.
وفيما يثيره منتقدو الشيخ راشد الغنوشي كثير من ازدواجية المعايير، ولو أتيحت لهم الإمكانات نفسها، لفعلوا أكثر منه. لذلك، تعتقد "النهضة" أنهم يودون لو أن لهم ما لديها من "رأسمال علائقي" راكمته من محنة المنفى الطويلة، وتجربة الحكم العسيرة، فضلا عن رصيدها الأدبي والأخلاقي الذي بنته من خلال تجربة التوافق لإنجاح الانتقال الديمقراطي في تونس.
ومع ذلك، وبقطع النظر عن أحقيّة الشيخ راشد الغنوشي في القيام بهذا الجهد وشرعيته، يؤشر الأمر إلى أزمة حقيقية، تمر بها الدبلوماسية التونسية الرسمية، وهي متواصلة منذ سنوات. وكان حزب نداء تونس (الحاكم) والرئيس الباجي السبسي، قد وعدا، في حملتيهما الانتخابيتين
هذه الإخفاقات الوظيفية التي حلت بالدبلوماسية التونسية هي التي أتاحت الفرصة لحركة الشيخ راشد الغنوشي، متداركا تلك النقائص تارة، ومقترحا مبادرات جديدة تارة أخرى، إذ تقول القاعدة إن هامش اللاشكلي يتسع كلما ضيّق الرسمي على نفسه.
ستكون النتائج الملموسة التي ستتمخض عنها هذه التحرّكات مقياسا لعديدين من خصوم الشيخ راشد، حتى يرموا الحجر الذي في أيديهم، من قبيل تجسيد المصالحة الليبية، وخصوصا عودة الاستثمار والسياحة بشكل ملحوظ، فكثيرون من خصوم الرجل ينتظرون إنجازات على أرض الواقع، للحكم على مساعيه، وهم يتمنون ألا يحدث ذلك أبدا، لتأبيد العداء له ولحركته، وإيجاد ذرائع للإجهاز عليه، رمزيا، حتى لو كان ذلك ضد مصلحة البلاد.