اجتماع تونس وحلّ الأزمة الليبية

27 فبراير 2017

وزراء اجتماع تونس في ضيافة السبسي (20/2/2017 فرانس برس)

+ الخط -
يزداد المشهد الليبي تعقيدًا من يوم إلى آخر، ومعه تتضاعف الأخطار المحدقة بالمنطقة والعالم انطلاقًا من ليبيا، التي أصبحت اليوم دولةً فاشلة ومنهارة، ومرتعًا للمليشيات المسلحة التي لا تؤمن بإعادة بناء الدولة الوطنية التوافقية، وفي ظل فشل جلسات الحوار وعدم التوصل إلى حلول توحد الأطراف المتنازعة أمام تضارب المصالح الداخلية والخارجية. فبعد ست سنوات مرّت على ثورة 17 فبراير/شباط 2011 في ليبيا، لم تلبث أن دخلت البلاد في أتون حرب وصراعات مسلحة ما زالت متواصلة، وفشلت الحكومات التي تعاقبت على الحكم في معالجة ملف الانفلات الأمني وانتشار الجماعات المسلحة، وغرقت في الفساد، ما وضع البلاد على حافة الإفلاس.
وتتنازع على السلطة في ليبيا اليوم ثلاث حكومات، "الوفاق" برئاسة فايز السراج التي تلقى دعماً دولياً، و"المؤقتة" المنبثقة عن مجلس النواب في طبرق ويرأسها عبد الله الثني، و"الإنقاذ" التي شكلها المؤتمر الوطني العام ويرأسها خليفة الغويل. أما الجنرال خليفة حفتر "قائد الجيش الوطني الليبي" الموالي لبرلمان طبرق، والذي لا يعترف بالحكومة في طرابلس، فقد تمكّن من السيطرة على أربعة موانئ نفط رئيسية، سمحت باستئناف صادرات النفط، ما أفضى، في المحصلة، إلى رفع وتيرة الصراع. وما زالت تفاعلات الأزمة الحادة متواصلة في ليبيا، على الرغم من مرور أكثر من عام على توقيع اتفاق الصخيرات للتوصل إلى تسوية، فقد وصل قطار الحراك السياسي إلى محطة اتفاق القاهرة، حيث استقبل أعضاء اللجنة الوطنية المصرية المعنية بليبيا، برئاسة رئيس أركان حرب القوات المسلحة الفريق محمود حجازي، وبحضور وزير الخارجية المصري، سامح شكري، يومي 13 و14 فبراير الجاري، رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، والمشير خليفة حفتر، وفايز السراج رئيس المجلس الرئاسي، لبحث سبل تسوية الأزمة الليبية في إطار توافقي. واتفق القادة على معالجة عدد محدود من القضايا المعلقة في الاتفاق السياسي الليبي للخروج من الأزمة، منها مراجعة تشكيل (وصلاحيات) المجلس الرئاسي الليبي لحكومة الوفاق الوطني بزعامة السراج ومنصب القائد الأعلى للجيش الليبي واختصاصاته وتوسيع عضوية المجلس الأعلى للدولة، الذي يُعد أعلى هيئة استشارية في البلاد. وأكد بيان عقب الاجتماعات أن اللقاءات بين القادة الليبيين أسفرت عن توافق حول عدد من الثوابت الوطنية "غير القابلة للتبديل أو التصرّف"، في مقدمتها الحفاظ على وحدة الدولة الليبية، وسلامتها الإقليمية، وما يقتضيه ذلك من تأسيس هيكل مستقر للدولة، ودعم مؤسساتها ولحمة شعبها والحفاظ على الجيش الليبي وممارسته دوره .كما اتفق الزعماء الليبيون أيضًا على رفض كل أشكال التدخل الأجنبي في الشأن الليبي وإدانتها، والتأكيد على حرمة الدم الليبي، والالتزام بإقامة دولة مدنية ديمقراطية حديثة مبنية على مبادئ التداول السلمى للسلطة والتوافق وقبول الآخر ورفض كل أشكال التهميش والإقصاء لأي طرفٍ من الأطراف الليبية، وتعزيز المصالحة الوطنية ومكافحة كل أشكال التطرف والإرهاب. وقرر القادة الليبيون المجتمعون العمل على "إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في موعد أقصاه شهر فبراير/ شباط 2018، اتساقاً مع ما نص عليه الاتفاق السياسي الليبي"، مع استمرار جميع شاغلي المناصب الرئيسية في ليبيا، إلى حين انتهاء الفترة الانتقالية، وتولي الرئيس والبرلمان الجديدين مهام عملهما في 2018.

وكانت اجتماعات القاهرة أفرزت اختلافاتٍ علنيةً بين الأطراف السياسية الليبية القريبة من القاهرة، وأغلبها في المنطقة الشرقية الليبية، والقوى المعارضة لها، وأغلبها في مصراته وطرابلس والمنطقة الغربية، الأمر الذي حال دون حصول لقاء مباشر بين رئيس حكومة الوفاق الليبية، بزعامة فائز السراج، من جهة، وقائد القوات التابعة لمجلس النواب في طبرق، اللواء المتقاعد خليفة حفتر، ورئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، من جهة أخرى.

رفض الحل العسكري
جاء اجتماع تونس الوزاري الذي ضم وزيري الخارجية التونسية والمصرية والوزير الجزائري لشؤون أفريقيا والمغرب العربي، يومي 19و20 فبراير/شباط 2017، تجسيدًا لمبادرة الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، التي أطلقها في زيارته أخيرا الجزائر يوم 15 ديسمبر/ كانون الأول 2016، ولقائه بالرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، وتكليفه بمقابلة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يوم 20 ديسمبر/ كانون الأول 2016. وكان السبسي قد حرص على استقبال كل الليبيين، من دون إقصاء أي طرف أو انحياز لطرف، ما ولّد قناعة لدى الليبيين بأن تونس هي البلد المؤهل أكثر من غيره لمساعدتهم على التوصل إلى حل سلمي توافقي للأزمة في بلادهم. وترتكز مبادرة الرئيس التونسي على المحاور التالية:
الأول: عودة الأطراف الليبية، على اختلاف توجهاتها الفكرية والأديولوجية والسياسية، إلى الحوار لمعالجة المسائل الخلافية التي أعاقت تنفيذ الاتفاق السياسي الموقع في الصخيرات.
الثاني: التأكيد على احترام مبادئ الشرعية الدولية في الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، ولا سيما ما نصت عليه قرارات مجلس الأمن ذات العلاقة بالمسألة الليبية، ومنها القرار 2259 في 23 ديسمبر/ كانون الأول 2015، والمتعلق بتوقيع الاتفاق السياسي الليبي، باعتباره المرجعية القانونية الدولية للتسوية، والإطار التوافقي للخروج من الأزمة، مع التأكيد على دور ومسؤولية منظمة الأمم المتحدة الراعي للحوار السياسي والمهني بمتابعة تنفيذ بنوده وتطبيق مخرجاته، واعتبار الدور المحوري للآلية دول جوار ليبيا والأمم المتحدة والهيئات الدولية والإقليمية.

الثالث: تداعيات الأزمة الليبية على دول الجوار، وخصوصا تونس ومصر والجزائر، ونظرًا لما لحق ليبيا من أضرار جسيمة، بسبب الانفلات الأمني والاحتراب الداخلي، تحرّكت مصر والجزائر وتونس، من أجل تجاوز حالة الترقب والجمود التي لا يجوز أن تظل مستمرة، ودفع الأطراف الليبية لتخطي هذا الانسداد، وفتح آفاق جديدة للتسوية السياسية والمصالحة الوطنية الشاملة في ليبيا، من دون إقصاء، في إطار الحوار الليبي-الليبي، بمساعدةٍ من الدول الثلاث، وبرعاية الأمم المتحدة، بهدف التوصل إلى تعديلاتٍ توافقية للاتفاق السياسي، بما يضمن تنفيذه وفقًا للآجال المتضمّنة في إطاره.
الرابع: رفض أي حل عسكري للأزمة الليبية، وأي تدخل خارجي في الشؤون الداخلية الليبية، باعتبار أن التسوية لن تكون إلا بين الليبيين أنفسهم، والتأكيد على أن يضم الحوار الأطراف الليبية كافة، مهما كانت توجهاتهم وانتماءاتهم السياسية.
الخامس: العمل على ضمان وحدة مؤسسات الدولة الليبية المدنية، المنصوص عليها في الاتفاق السياسي (المجلس الرئاسي، مجلس النواب، المجلس الأعلى للدولة)، بما في ذلك الحفاظ على وحدة الجيش الليبي، وفقًا لبنود الاتفاق السياسي، للقيام بدوره الوطني في حفظ الأمن ومكافحة الإرهاب والجريمة العابرة للحدود والهجرة السرية.
وقد مثل اجتماع تونس الثلاثي ردًّا على دعواتٍ صدرت عن أطراف دولية وليبية تبرّر التدخل العسكري الأميركي أو الروسي أو الأوروبي المباشر مجددًا في ليبيا، تحت يافطات مكافحة الإرهاب، أو فرض تنفيذ قرار مجلس الأمن 2259 الصادر في 23 ديسمبر/ كانون الأول 2015، والذي دعا إلى تطبيق كامل لاتفاق الصخيرات.
غير أن اجتماع تونس، على قيمته، لم يتطرّق إلى العوائق الموجودة في اتفاق الصخيرات، وقد أوصى بأن تتابع الأمر القمة الرئاسية الثلاثية بشأن ليبيا في العاصمة الجزائرية، والتي سيشارك فيها الرؤساء الباجي قائد السبسي وعبد العزيز بوتفليقة وعبد الفتاح السيسي، لبحث تطوير اتفاق الصخيرات، علمًا أن موعد انعقاد القمة وجدول أعمالها التفصيلي سييحددان على ضوء نتائج الحوارات والمشاورات مع الأطراف السياسية الليبية من دون إقصاء أي طرف.
ويذكر أن الفصل الثامن من اتفاق الصخيرات أقصى ضمنيًا اللواء خليفة حفتر وسياسيين من الصف الأول من مختلف التيارات، بحجة مشاركتهم في المسؤوليات العليا خلال الأعوام الماضية. وأمام اعتراضات حفتر وأنصاره ورموز من النظام السابق، ومن حكومات ما بعد ثورة 17فبراير، على هذا الفصل، فإن من النتائج المتوقعة لقمة الجزائر الثلاثية الإعلان عن مبدأ "تطوير" اتفاق الصخيرات، أو تعديله "بما يتضمن مشاركة كل الأطراف ويستبعد هيمنة أي طرفٍ على اللعبة السياسية القادمة".
وتؤكد مصادر الدبلوماسية التونسية على لسان وزير الخارجية، خميس الجهيناوي، أن الدولة التونسية، وخلافًا لشائعات وانتقادات، ليست منحازةً لأي محور عربي أو دولي، وهي تسعى إلى إنجاح مسار التسوية الليبية- الليبية، خدمة لمصلحة الشعب الليبي أولاً، ومصالح دول جوار ليبيا ثانيًا.
ويبدو أن تونس كانت بالنسبة لطرفي النزاع المكان الملائم للجلوس المشترك لفض أزمة الاقتتال الداخلي، فتونس التزمت بالحياد تجاه الطرفين، على الرغم من كل الضغوط، وفضلت، في أوقات عصيبة، التعامل مع طرفي النزاع، وافتتاح تمثيلية ديبلوماسية للتعامل مع طرفي النزاع شرقا وغربا. وعلى الرغم من اختطاف الطاقم الدبلوماسي من السفارة التونسية في طرابلس، احتفظت تونس بحيادها تجاه الأزمة الداخلية في ليبيا، وهو ما سمح لها بأن تكون أرضا محايدة، لكي يجلس الفرقاء الليبيون لإيجاد حل للأزمة سياسيا، وتحقيق مصالحة وطنية.

الحاجة إلى العقلانية السياسية
الأزمة في ليبيا اليوم أمام منعرج حاسم، وليس أمام الأطراف الليبية ترف مزيد إضاعة الوقت. وهناك عقبات بنيوية تحول دون بلورة مرجعية وطنية ليبية، تنجدل تحتها كل المكونات الليبية السياسية والقبلية والعسكرية، ومنها:
أولا: من تداعيات التدخل العسكري الغربي في ليبيا أنه خلّف، بعد إسقاط نظام معمر القذافي، مليشيات إسلاموية مسلحة، مستعدة لتقسيم البلاد بين قبائل الشرق وقبائل الغرب، إضافة إلى
حربٍ أهلية متواصلة، تغذّيها الخلافات القبلية، وارتباط القوى السياسية الليبية بالمحاور الإقليمية والدولية التي عادة ما تتعارض مصالحها، فالتدخل العسكري الأطلسي قاد إلى انهيار مؤسسات الدولة، والتي بانهيارها تحولت ليبيا إلى مرتع للمليشيات، وانتشار 42 مليون قطعة من السلاح في بلد هو أحوج إلى توفر الدواء والغذاء، لكن القوى الدولية والإقليمية اعتمدت تقديم الدعم لطرف ليبي على حساب طرف آخر، فأغرقت المتناحرين بالسلاح، وهو خيار وجدت فيه دول مصدرة للسلاح ضالتها لترويج ما تنتجه مصانعها من أدوات الخراب والدمار، والاستفادة بالتالي من مآسي الشعوب، بينما كان التحديان الأكبر أمام دولة ليبيا المقبلة، ولا يزالان، يتمثلان في فرض الأمن وإعادة بناء الدولة الوطنية، وتخطي الصعوبات الاقتصادية.
ثانيا: لم يشكل اتفاق الصخيرات مرجعية وطنية لجميع الأطراف الليبية، بل إن المخولين بالتوقيع من الجسمين، المؤتمر الوطني العام (أو برلمان طرابلس)، والبرلمان (برلمان طبرق)، أعلنا في وقتها أنهما في حِلّ من هذا الاتفاق، لِيوقَّع بعدها بأعضاء من كليهما بمخالفةٍ للجسم الأم، معتمدين على مبدأ المغالبة والأمر الواقع، وليس التوافق، ليصير بعدها أمراً واقعاً، تتعامل بمقتضاه الدول الداعمة له، والتي غضّت النظر، ولو جزئياً، عن الاختلاف الناشئ عنه، وبدأت تتعامل مع المجلس الرئاسي المنبثق عنه باعتباره سلطة تنفيذية وحيدة في البلاد، فالأطراف السياسية التي لها دور فاعل في المشهد السياسي، لم تنظر إلى الأزمة الليبية من زاوية الابتعاد عن المصالح الضيقة، وجعل المصلحة الوطنية العليا أمراً استراتيجياً حقيقياً، ورفض ارتهان ليبيا وزمام أمرها في أشخاص معينين، والعمل على جعل روح التوافق والبعد عن الجدل ركيزة العمل الوطني للخروج من الأزمة.
ثالثا، الحل في ليبيا لا بد أن يكون داخلياً، وعن طريق التوافق بين جميع الليبيين، وأن حكومة الوفاق الوطني الحالية يجب أن تضع في حسبانها أن التشكيلة الحكومية لن تنجح إن لم تكن متوازنة، وعليها أن تحتكم إلى الكفاءات، وليس إلى الجهويات أو إلى اعتباراتٍ أخرى، وأن تعتمد على مبدأ المواطنة، لأن ليبيا لجميع الليبيين. وبالنسبة لمختلف القوى السياسية الليبية، عليها أن تقاوم أي تدخل أجنبي في ليبيا، وتقحم مجلس القبائل في أي تسويةٍ سياسية، لأن الصراع في ليبيا ليس سياسياً، بقدر ما هو جهوي أيديولوجي قبلي، وهو ما يستدعي حواراً شاملاً، ومصالحة اجتماعية تتبناها القبائل، ويتبناها كذلك المجلس الأعلى للقبائل الذي يبقى له دور مهم في التنسيق بين المدن، وكذلك مع دول الجوار، في محاربة الإرهاب، وحماية الحدود، ودعم حكومة الوفاق الوطني، والمطالبة بعودة المهجّرين، والاحتكام إلى الصندوق، ورفع الغطاء عن جميع المليشيات المسلحة، ولا بدّ من هذه التسوية التي باتت ضرورةً لحل الأزمة في ليبيا، حتى لا تكون عرضة للانقسام ولمزيدٍ من الضياع.

E8457B4F-E384-4D2B-911B-58C7FA731472
توفيق المديني

كاتب وباحث تونسي، أصدر 21 كتاباً في السياسة والفكر والثقافة