11 أكتوبر 2024
الشباب الجزائري وزمن الثقافة السياسية العدمية
تلخص ثلاثة أشرطة فيديو في "يوتيوب" وأغنية في الملاعب، أفضل من آلاف الخطب وأبلغ من آلاف القصائد، واقع الجزائر، وتفتح الباب لثقافة سياسية جديدة، لكنها ثقافة بقالب العدمية، كونها مليئة باليأس الذي يدعو إلى التفكير والحركة، قصد إصلاح الأمور بسرعة.
كلما اقتربت مواعيد الانتخابات، وجد الشباب الجزائري نفسه أمام فرصة للتنفيس عن مشكلاته ومتاعبه. وبما أن أبواب التعبير الحرّة موصدة أمامهم، بمنع المظاهرات والوقفات الاحتجاجية السلمية، لجأ الجزائريون إلى وسيلتين ناجعتين، لا يمكن للنظام أن يتحكّم فيهما، بل تجاهلهما، تماما، الفضاء العنكبوتي الشاسع ومدرجات الملاعب. وهما أداتان تؤديان وظيفة "المحلل النفسي" الذي يستدعي، بالكلام والاسترسال في الحديث، التعبير عن مكنونات متاعب أصبحت، الآن، من يوميات الجزائريين، أينما ذهبوا وأينما لجأوا، طلبا للخدمات، وبحثا عمن يقضي لهم مصالحهم اليومية من دون فائدة ترتجى.
اكتسب الشباب الجزائري، في السنوات الأخيرة، مهاراتٍ ولدت من العولمة، عرف كيف يحتوي تعقيداتها، وتبنّى مراميها في صنع رأي عام، بثقافة سياسية جديدة لا تعمل على ترديد خطاب السلطة، بل تفكّكه، لترد عليه، منتقدة له أو منكّتة عليه، وفي أغلب الأحيان، موحية للمجتمع بوجوب الاعتراض، ولكن من دون تجاوز الخطوط الحمراء المرسومة في خريطة طريق الاستعصاء عن التغيير الذي طبع النظام السياسي منذ الاستقلال. وتتزامن إسهامات الشباب مع المواعيد الانتخابية، متأكدين من وقع الكلمة الممزوجة بالصورة المختارة بعناية شديدة، وبخلفية موسيقية تدل على إحساس مرهف، ما يجعل منها أداة تنتج انعكاساتٍ أبلغ أثرا من التي ينتجها خطاب المعارضة، أو الإعلام الناقد بحق لعمل السياسيين والمكرّس، عبر ذلك كله، لفشلهم في تغيير واقع الجزائريين.
وبتحليل خطاب شريطين اثنين، هما "ما نسوطيش" (لن أصوّت، للبرودكاست الشاب دي زاد جوكر) و"راني زعفان" (أنا غاضب، للبرودكاست الشاب أنس تينا)، نستنتج عمق وعي الشباب الذي يتم انتقاده، يوميا، في وسائل إعلام مؤيدة للحكومة، بأنه لا يريد العمل، أو أنه بعيد عن فهم إشكاليات المجتمع بحكم اهتماماته التي لا تتعدّى هاتفا محمولا، لباسا رياضيا، أو حلما بهجرة. وتؤكد صور الشريطين، من خلال وصف الواقع المرير للمجتمع، وعلى المستويات كافة، على انسداد طبقي حقيقي بين قمةٍ، لها كل شيء، وتحكم، ويتمتع أبناؤها بكل المزايا، في حين ترزح الطبقة المهمّشة، المتكوّنة من غالبية الشعب، في فقر مدقع وتجاهل من النخبة الحاكمة، إضافة إلى غلق فضاءات كسر قيود ذلك الانسداد، فلا يقوم انسياب طبقي، بمبدأ "تكافؤ الفرص".
عند النظر في مضامين ذلك الخطاب، نجده موجّها للتنفيس عن إحباط من واقع مرير، قد تكون صور الاكتظاظ للتسجيل في مسابقة لغوية، أمام المركز الثقافي الفرنسي، عشية ذكرى حدث عظيم، هو استعادة السيادة الوطنية من المستعمر صاحب تلك اللغة، قد تكون خير معبّر عن هذا الواقع في مسار بحث أولئك الشباب عن بديل للفشل الحادث على المستويات كافة. وقد توازي ذلك مع اهتمام من هم في أعلى هرم السلطة، بإشكاليات أخرى، بعيدة عن تلك الثقافة السياسية التي تشكلت بمضامين عدمية وبسوداوية تفوق كل وصف.
هل وجدت تلك الصيحات الشبابية صدىً لدى الأحزاب والمجتمع المدني؟ قالت "الموالاة" (أحزاب توالي السلطة) إن هذه الصيحات لا تتفق مع الحقيقة. وتبرز هذه الأحزاب إنجازات لا يدري أحد كنهها، ولمن هي موجهة وعظم المبالغ التي رصدت لها ثم تجاوزتها، لتكون النتيجة الأزمة الاقتصادية الراهنة الخانقة، التقشف ومزيد من الضرائب. أما أحزاب المعارضة، وهي شكلية وبدون تمثيلية لدى الرأي العام (وفي مؤشرات الانتخابات، إن صحت) فهي بدون صوت، أو تكاد لا تنبس ببنت شفة، ولم يسارع أي منها إلى عقد جلسات مع أولئك الشباب، بل يوجّه بعضها خطابه لمصارعة "طواحين الهواء" الخيالية، بالتعرّض لإشكالاتٍ بعيدة عن تلك الثقافة السياسية العدمية الجدّية.
وبشأن المجتمع المدني، يمكن معرفة صدى تلك الصيحات الشبابية من مؤشر عدد المشاهدات التي فاقت كل تصور، وتجاوزت حدود الجزائر، ليصل صداها إلى البلدان المغاربية (المغرب وتونس خصوصا) بحكم تقارب اللهجات، وتوافق، بل تطابق، إشكاليات الشباب ومضامين الثقافة السياسية الجديدة في تلك البلدان. كما أن مشاهد الجثث التي يجدها الجزائريون كل صباح للــ"الحراقة" (المهاجرون غير الشرعيين) تشكل صدمة تلو الصدمة، وتؤدي إلى تصاعد النقمة على الأوضاع، وتؤسس لتلك الثقافة السياسية، والتي كان من شواهدها العزوف عن الانتخابات، وانتشار لغة خطاب سياسي يعارض به المواطنون خطاب السلطة والحقائق التي لا يرون في الواقع تجسيدا لها، ولطموحاتهم ومستقبلهم.
لا تمكن الإجابة عن هذا السؤال بدون الرجوع إلى مقالة سابقة لكاتب هذه السطور، طرحت مجمل الإشكالات التي على السلطة الاضطلاع بحلّها، إذا ما أرادت لهذه الثقافة السياسية أن تبقى في أدنى صورها، أي تعبيرية فقط، بمعنى أن تكون ذات بعد عدمي بمضمون انتحاري، أي التخلّي عن طلب العلم، عدم الاهتمام بالمستقبل إلا من خلال فرضية تحقق الهجرة (الموت المحقق بالقوارب) إلى الضفة الأخرى. وكان الحديث عن ثلاثة إشكالات، دوران النخب، الشرعية والقضاء على الريع، وهي الأمراض التي استعصى، إلى الآن، إيجاد حل لها في فترة امتدت نحو 65 سنة من الاستقلال. تلك الإشكالات هي موضوع تلك الثقافة السياسية العدمية لدى الشباب الذين يردّدون أنهم بطّالون، بحكم ما يرونه من سياسة اقتصادية بدون أفقٍ تعمل على استغلال "ريع نفطي"، لا نتاج دورات الصدمات الاقتصادية: شراء للسلم الاجتماعي، صدمة اقتصادية (انهيار الأسعار)، تقشّف، دورة جديدة لشراء السلم الاجتماعي (بعودة
الأسعار إلى الارتفاع)... وهكذا دواليك. وتتزامن تلك الصدمة "الريعية" مع فرض سياسة عامة سياسية بدون أفق، أيضا، إذ لا ضمان لتسيير تلك الصدمة، إلا بشرعية على المقاس وبنخب تنتقى أفرادها لضمان "ولاء" يخدم إعادة اجترار تلك السياسات، وإنتاج الأوضاع نفسها.
طرح المرحوم محمد بوضياف (الرئيس الجزائري المغتال في 1992)، غداة الاستقلال، سؤالا، بعباراتٍ ما زالت تتردد في كتابات محللين كثيرين: إلى أين تذهب الجزائر؟ وإلى الآن، لم يجب أصحاب السلطة، ولا من يسمّون أنفسهم معارضة. ووحدهم الشباب بادروا، بتلك الثقافة السياسية الجديدة، إلى اقتراح إجابة، ولكن بمضامين تحمل رمزية العدمية، وتلخص أفقا سوداويا لبلدٍ يمكن أن تكون خيراته معبرا لبناء نموذج اقتصادي ناجح، يحمل الخير لكل فئات المجتمع وتكون قاطرته، بعنوان الشباب، المتخرجين من الجامعات، الحاملين شهادات كفاءة من مراكز التأهيل، ومئات بل الآلاف ممن يمكنهم، جميعا، العمل على تجسيد جزائر جديدة بنخب جديدة وشرعية جديدة، وبنموذج اقتصادي حقيقي.
ختاماً، أصبحت تلك الثقافة السياسية محط اهتمام الدارسين، بل ودخلت مفردات كثيرة، منتقاة منها، قاموس "السياسة بمنطق الشباب"، وهو ما ينذر بوجوب التفكير في الإجابة عنها، بإجراءاتٍ تكون عملية، لعل منطلقها إيجاد بدائل عاجلة لسياسة عامة، أثبتت فشلها، وتحتاج نفسا جديدا وأيدي وسواعد جديدة.
كلما اقتربت مواعيد الانتخابات، وجد الشباب الجزائري نفسه أمام فرصة للتنفيس عن مشكلاته ومتاعبه. وبما أن أبواب التعبير الحرّة موصدة أمامهم، بمنع المظاهرات والوقفات الاحتجاجية السلمية، لجأ الجزائريون إلى وسيلتين ناجعتين، لا يمكن للنظام أن يتحكّم فيهما، بل تجاهلهما، تماما، الفضاء العنكبوتي الشاسع ومدرجات الملاعب. وهما أداتان تؤديان وظيفة "المحلل النفسي" الذي يستدعي، بالكلام والاسترسال في الحديث، التعبير عن مكنونات متاعب أصبحت، الآن، من يوميات الجزائريين، أينما ذهبوا وأينما لجأوا، طلبا للخدمات، وبحثا عمن يقضي لهم مصالحهم اليومية من دون فائدة ترتجى.
اكتسب الشباب الجزائري، في السنوات الأخيرة، مهاراتٍ ولدت من العولمة، عرف كيف يحتوي تعقيداتها، وتبنّى مراميها في صنع رأي عام، بثقافة سياسية جديدة لا تعمل على ترديد خطاب السلطة، بل تفكّكه، لترد عليه، منتقدة له أو منكّتة عليه، وفي أغلب الأحيان، موحية للمجتمع بوجوب الاعتراض، ولكن من دون تجاوز الخطوط الحمراء المرسومة في خريطة طريق الاستعصاء عن التغيير الذي طبع النظام السياسي منذ الاستقلال. وتتزامن إسهامات الشباب مع المواعيد الانتخابية، متأكدين من وقع الكلمة الممزوجة بالصورة المختارة بعناية شديدة، وبخلفية موسيقية تدل على إحساس مرهف، ما يجعل منها أداة تنتج انعكاساتٍ أبلغ أثرا من التي ينتجها خطاب المعارضة، أو الإعلام الناقد بحق لعمل السياسيين والمكرّس، عبر ذلك كله، لفشلهم في تغيير واقع الجزائريين.
وبتحليل خطاب شريطين اثنين، هما "ما نسوطيش" (لن أصوّت، للبرودكاست الشاب دي زاد جوكر) و"راني زعفان" (أنا غاضب، للبرودكاست الشاب أنس تينا)، نستنتج عمق وعي الشباب الذي يتم انتقاده، يوميا، في وسائل إعلام مؤيدة للحكومة، بأنه لا يريد العمل، أو أنه بعيد عن فهم إشكاليات المجتمع بحكم اهتماماته التي لا تتعدّى هاتفا محمولا، لباسا رياضيا، أو حلما بهجرة. وتؤكد صور الشريطين، من خلال وصف الواقع المرير للمجتمع، وعلى المستويات كافة، على انسداد طبقي حقيقي بين قمةٍ، لها كل شيء، وتحكم، ويتمتع أبناؤها بكل المزايا، في حين ترزح الطبقة المهمّشة، المتكوّنة من غالبية الشعب، في فقر مدقع وتجاهل من النخبة الحاكمة، إضافة إلى غلق فضاءات كسر قيود ذلك الانسداد، فلا يقوم انسياب طبقي، بمبدأ "تكافؤ الفرص".
عند النظر في مضامين ذلك الخطاب، نجده موجّها للتنفيس عن إحباط من واقع مرير، قد تكون صور الاكتظاظ للتسجيل في مسابقة لغوية، أمام المركز الثقافي الفرنسي، عشية ذكرى حدث عظيم، هو استعادة السيادة الوطنية من المستعمر صاحب تلك اللغة، قد تكون خير معبّر عن هذا الواقع في مسار بحث أولئك الشباب عن بديل للفشل الحادث على المستويات كافة. وقد توازي ذلك مع اهتمام من هم في أعلى هرم السلطة، بإشكاليات أخرى، بعيدة عن تلك الثقافة السياسية التي تشكلت بمضامين عدمية وبسوداوية تفوق كل وصف.
هل وجدت تلك الصيحات الشبابية صدىً لدى الأحزاب والمجتمع المدني؟ قالت "الموالاة" (أحزاب توالي السلطة) إن هذه الصيحات لا تتفق مع الحقيقة. وتبرز هذه الأحزاب إنجازات لا يدري أحد كنهها، ولمن هي موجهة وعظم المبالغ التي رصدت لها ثم تجاوزتها، لتكون النتيجة الأزمة الاقتصادية الراهنة الخانقة، التقشف ومزيد من الضرائب. أما أحزاب المعارضة، وهي شكلية وبدون تمثيلية لدى الرأي العام (وفي مؤشرات الانتخابات، إن صحت) فهي بدون صوت، أو تكاد لا تنبس ببنت شفة، ولم يسارع أي منها إلى عقد جلسات مع أولئك الشباب، بل يوجّه بعضها خطابه لمصارعة "طواحين الهواء" الخيالية، بالتعرّض لإشكالاتٍ بعيدة عن تلك الثقافة السياسية العدمية الجدّية.
وبشأن المجتمع المدني، يمكن معرفة صدى تلك الصيحات الشبابية من مؤشر عدد المشاهدات التي فاقت كل تصور، وتجاوزت حدود الجزائر، ليصل صداها إلى البلدان المغاربية (المغرب وتونس خصوصا) بحكم تقارب اللهجات، وتوافق، بل تطابق، إشكاليات الشباب ومضامين الثقافة السياسية الجديدة في تلك البلدان. كما أن مشاهد الجثث التي يجدها الجزائريون كل صباح للــ"الحراقة" (المهاجرون غير الشرعيين) تشكل صدمة تلو الصدمة، وتؤدي إلى تصاعد النقمة على الأوضاع، وتؤسس لتلك الثقافة السياسية، والتي كان من شواهدها العزوف عن الانتخابات، وانتشار لغة خطاب سياسي يعارض به المواطنون خطاب السلطة والحقائق التي لا يرون في الواقع تجسيدا لها، ولطموحاتهم ومستقبلهم.
لا تمكن الإجابة عن هذا السؤال بدون الرجوع إلى مقالة سابقة لكاتب هذه السطور، طرحت مجمل الإشكالات التي على السلطة الاضطلاع بحلّها، إذا ما أرادت لهذه الثقافة السياسية أن تبقى في أدنى صورها، أي تعبيرية فقط، بمعنى أن تكون ذات بعد عدمي بمضمون انتحاري، أي التخلّي عن طلب العلم، عدم الاهتمام بالمستقبل إلا من خلال فرضية تحقق الهجرة (الموت المحقق بالقوارب) إلى الضفة الأخرى. وكان الحديث عن ثلاثة إشكالات، دوران النخب، الشرعية والقضاء على الريع، وهي الأمراض التي استعصى، إلى الآن، إيجاد حل لها في فترة امتدت نحو 65 سنة من الاستقلال. تلك الإشكالات هي موضوع تلك الثقافة السياسية العدمية لدى الشباب الذين يردّدون أنهم بطّالون، بحكم ما يرونه من سياسة اقتصادية بدون أفقٍ تعمل على استغلال "ريع نفطي"، لا نتاج دورات الصدمات الاقتصادية: شراء للسلم الاجتماعي، صدمة اقتصادية (انهيار الأسعار)، تقشّف، دورة جديدة لشراء السلم الاجتماعي (بعودة
طرح المرحوم محمد بوضياف (الرئيس الجزائري المغتال في 1992)، غداة الاستقلال، سؤالا، بعباراتٍ ما زالت تتردد في كتابات محللين كثيرين: إلى أين تذهب الجزائر؟ وإلى الآن، لم يجب أصحاب السلطة، ولا من يسمّون أنفسهم معارضة. ووحدهم الشباب بادروا، بتلك الثقافة السياسية الجديدة، إلى اقتراح إجابة، ولكن بمضامين تحمل رمزية العدمية، وتلخص أفقا سوداويا لبلدٍ يمكن أن تكون خيراته معبرا لبناء نموذج اقتصادي ناجح، يحمل الخير لكل فئات المجتمع وتكون قاطرته، بعنوان الشباب، المتخرجين من الجامعات، الحاملين شهادات كفاءة من مراكز التأهيل، ومئات بل الآلاف ممن يمكنهم، جميعا، العمل على تجسيد جزائر جديدة بنخب جديدة وشرعية جديدة، وبنموذج اقتصادي حقيقي.
ختاماً، أصبحت تلك الثقافة السياسية محط اهتمام الدارسين، بل ودخلت مفردات كثيرة، منتقاة منها، قاموس "السياسة بمنطق الشباب"، وهو ما ينذر بوجوب التفكير في الإجابة عنها، بإجراءاتٍ تكون عملية، لعل منطلقها إيجاد بدائل عاجلة لسياسة عامة، أثبتت فشلها، وتحتاج نفسا جديدا وأيدي وسواعد جديدة.