فلسطينيون وسوريون.. آلام متماثلة وآمال متباينة

29 ديسمبر 2017
+ الخط -
أثار الكاتب الصديق، محمود الريماوي، في مقاله في "العربي الجديد" يوم 23 من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، شجوناً كثيرة لدى بعض زملائه المتماثلين معه في المواقف والرؤى حيال جملة واسعة من القضايا والموضوعات المدرجة على أجندة الاهتمامات الشعبية العربية الراهنة، لا سيما ما اتصل منها بما أسماها القاص والروائي الحاذق "نكبات تجمع شعوباً وتباعد بينها"، وهو عنوان مقاله، حيث استعرض ظاهرة جديدة، قوامها العجز عن التضامن السائدة في هذه الآونة بين شعوبٍ عربية افتقدت الحس بالتواصل الوجداني بين بعضها بعضاً، جرّاء انصراف كل شعب إلى عذاباته وآلامه الخاصة.
وبينما التقط الريماوي، ببراعة، العناصر المشتركة لهذه المحنة الطامة العامة، وحاول تشخيص عوامل التباعد، الناجمة أساساً عن اختلاف مصادر محنة كل شعبٍ بعينه، وهو ما أدى إلى عدم الالتفات إلى ما يجري خارج الحدود الوطنية، فإن صاحب هذه السطور سوف يحاول تركيز الضوء في هذه الإطلالة، ما أمكنه ذلك، على مقطع عرضي من هذه المحنة الشاملة، أي المقطع الخاص بالآمال المتماثلة والآلام المتباينة بين أكثر شعبين عربيين تعرّضا لأهوال القتل والتهجير والاعتقال والترويع، وهدم البيوت والمصادرات، ناهيك عن التغيير الديمغرافي، وهما الشعبان السوري والفلسطيني، اللذان كثيراً ما يتبادلان العتب واللوم، وأحياناً التهم بعدم الاكتراث، وعدم التضامن، حتى لا نقول أكثر، لدى كل منهما إزاء الآخر، على الرغم من تشابه المأساتين المروعتين إلى حد بعيد.
قبل أن أمضي في هذه المساهمة، أود الإقرار شخصياً (وأنا ابن الكارثة الأولى) بأن ما حصل للسوريين طوال السنوات السبع الماضية، من قتل بالجملة، وتجويع وانتهاكات إنسانية لا نظير لها، وتحطيم للبلاد وللعباد، كان أشد وطأة على البشر والشجر والحجر، مما حدث للفلسطينيين، عبر نكباتهم المتواصلة منذ نحو سبعين سنة على الأقل، وأنه على الرغم من فداحة وجسامة ما وقع على أول شعب عربي تعرّض للمحنة بكل أبعادها السياسية والاجتماعية، فقد كان حجم نطاق ما لحق بالسوريين من فظائع لم تتكشف كلها بعد، ومداه واتساعه، أدهى وأمرّ من كل ما شهدته بقية الشعوب العربية المبتلاة بالاستبداد والفساد والإرهاب، وفوق ذلك كله الحروب الداخلية المتفاقمة عاماً بعد عام، خصوصا في دول المشرق العربي.

وخشية أن يكون هذا الشعور مجرد انطباع ذاتي ناجم عن حالةٍ وجدانية صعبة، صنعته المشاهد المبثوثة من عين المكان، في زمن انفجار ثورة الاتصالات الرقمية، وهو أمر لم يكم قائماً في عصر أم النكبات كلها، فقد بُحت بمشاعري هذه لواحدٍ من أعضاء الصف الأول في القيادة الفلسطينية، قائلاً له في لقاء خاص، وبعد تردّد؛ هل تشاركني التقدير أن ما تعرّض ويتعرّض له السوريون على يدي نظامهم الدموي هو أشد هولاً مما جرى للفلسطينيين الذين هجروا من ديارهم، وفقدوا وطنهم، ولحق بهم كل ما تختزنه الذاكرة الجماعية من آلام مبرحة، إلا أنهم لم يُقتلوا على هذا النحو شبه الجماعي الاستعراضي، تحت سمع العالم وبصره، ولم ينكّل بهم بهذا القدر من الوحشية المنفلتة من كل اعتبار ورادع، على الرغم من أن إسرائيل المتربعة على عرش القتلة في هذا العصر لم تقصّر في انتهاك أبسط الحقوق الفلسطينية المشروعة، بما في ذلك سلب الحق في الحياة ذاتها؟
كان مفاجئاً لي أن هذا التقدير الذي عرضته بوجل لقي موافقة محدّثي المسؤول من دون تحفظ، الأمر الذي يفتح الكلام أوسع لمناقشة ما طرحه الزميل محمود الريماوي، عن النكبات التي تجمع بين شعوب عربية لدى كل منها محنة خاصة بها، لكن هذه النكبات تفرّق بينها في الوقت ذاته، على نحوٍ يمكن فهمه، ولا سيما في الحالتين؛ الفلسطينية والسورية، المتشابهتين في جوانب عديدة، والمختلفتين عن بعضهما، سواء في مصدر المحنة، أو طول الأمد، وعدد الضحايا والمشرّدين، فضلاً عن الاختلاف في المصائر، كون المهجّرين السوريين قسراً من بيوتهم لا تمنع عودتهم في يومٍ ما قوة احتلال إجلائي إقصائي إحلالي فاجر، فيما تبدو هذه المسألة الجوهرية بعيدة المنال بالنسبة لشعبٍ تجري عملية تغييبه وإنكار وجوده، فضلاً عن تهويد بلاده، واستبدال تاريخه، بدعم أقوى قوة على وجه الأرض، وهي الولايات المتحدة الأميركية.
والحق أنني لا أعلم السبب الذي حمل صديقنا محمود الريماوي على الخوض في غمار هذه المسألة المثيرة للانفعالات المختلفة، والمؤدية ربما إلى مزيد من سوء الفهم بين أعضاء النخب السياسية والثقافية العربية المعنية، كل منها على حدة، بشرح بواعث ألمها، وبيان مصدر عتبها، وتعداد مطارح غضبها على الآخرين، ممن لا يتماثلون بالقدر الكافي مع مصائبها، إلا أنني أعرف الباعث لدي على الاشتراك في النقاش حول ما يبدو تلاوماً متبادلاً بين هؤلاء وأولئك، ينقلب في بعض الأحيان إلى ما يشبه الاتهامات القاسية، وفق ما لاحظه بدقة أصدقاء وزملاء، أخذوا يستمعون، في الآونة الأخيرة، لتعبيراتٍ ومقولاتٍ أشد من عاتبة، تجري على ألسنة كتاب سوريين متألمين لما هم فيه من محنةٍ مروّعة، ضد نظراء فلسطينيين لهم، مثل أنه لم يعد في حوْلنا التعاطف مع الفلسطينيين، حتى ممن انخرطوا في الثورة، ودفعوا مع شركائهم أثماناً باهظة.
ومع أنني على ثقة بأن هذه الأصوات اليائسة لا تعبر عن ضمير جماعي سوري، تحتل فيه فلسطين مقامها الرفيع جيلاً بعد جيل، منذ كانت فلسطين الجزء الجنوبي من الجغرافيا السورية، أوائل القرن العشرين وقبل النكبة الكبرى، إلا أن الأمر يستحق الرد باحترام وتفهّم لأصحاب هذه الأصوات والنزوات، المستغرقين في أوجاعهم الوطنية المبرحة، المصدومين من تخلي العالم عنهم، وتسامح الشرق والغرب مع قاتلهم، الأمر الذي يدعو إلى ضرورة إجراء حوار
هادئ مع هؤلاء الذين نال منهم استخدام أعتى الأسلحة والمعدّات الحربية الحديثة ضد شعبهم، وتحالفت عليهم قوى مذهبية فظّة الخطاب، أتت من كل أرجاء العالم الشيعي، في الوقت الذي راح فيه حلفاؤهم الموضعيون، أو قل أبناء جلدتهم، يديرون لهم الظهر من دون اكتراث، تماماً على نحو ما تجلت عنه التطورات الأخيرة، منذ رمت روسيا بكل ثقلها الحربي والسياسي ضد ثورة الحرية والكرامة، وسط ما يشبه التسليم من حكام العرب بمشروعية المقتلة الجارية قياماً قعوداً على أيدي دولة كبرى عاتية.
على أي حال، لا يبدّل كل هذا العتب واللوم، وما يشيعه من غضب وسوء فهم أحياناً، من حقيقة أن المشتركات بين الشعوب العربية، المستنزفة إلى الآن في دمائها ومقدراتها، والمتماثلة في آلامها، أكبر عددا وأكثر أهمية من أن يباعد بينها قول قائل من هنا، أو زعم زاعم من هناك، قد يكون صادراً عن لحظةٍ انفعالية عابرة، أو ناجماً عن رؤية جزئية مشوشة، أحسب أنها ستمضي أدراج الرياح الشتائية الباردة، التي تهب في هذا الموسم على المشرق العربي، لاسيما على شعبي سورية وفلسطين، المتماثلين في الألم، والمتباينين، بالضرورة الموضوعية، في المصير النهائي والأمل.
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي