تونس والشراكة مع الاتحاد الأوروبي

19 ديسمبر 2017
+ الخط -
تجمع تونس والاتّحاد الأوروبي علاقات عريقة، وطيدة في مجالات عدّة سياسية وثقافية، واقتصادية وأمنية، فموقع تونس الجغرافي الاستراتيجي أتاح لها أن تكون نافذة على دول المغرب العربي ودول العمق الأفريقي، ومكّنها من أن تكون نقطة اتّصال مهمّة بين أوروبّا ودول الجنوب، فتونس ذات أهميّة بالغة في تجسير العلاقة بين القارّتين، وفي تعزيز التّبادل التّجاري والتّواصل الحضاري والتّنسيق الأمني بينهما. لذلك لا غرابة أن تتّجه أوروبّا إلى تطوير سياسات الجوار واتّفاقيات التّعاون مع تونس، بهدف تأمين محيطها الإقليمي، ووضع حدّ للهجرة العشوائية وحركة المجموعات الإرهابية العابرة للحدود، وبغاية فتح أسواق جديدة للبضائع الأوروبيّة، وكذا بهدف تعزيز الشراكة بين الطرفين.
وتاريخياً، يعود أوّل اتّفاق تجاريٍّ بين تونس والمجموعة الاقتصادية الأوروبيّة إلى سنة 1969، وتمّ التوقيع على اتّفاق تعاون سنة 1976، وفتحت المفوّضية الأوروبيّة، وهي من بين أبرز هياكل الاتّحاد الأوروبي، فرعا لها في تونس سنة 1979، وأصبحت تونس سنة 1995 أوّل بلد من جنوب المتوسّط يُوقّع اتفاقيّة شراكة مع الاتّحاد الأوروبي. وعرف مسار العلاقة بين الطرفين تحوّلا نوعيّا بعد ثورة 2011، إذ أعلن الاتّحاد مساندته مسار الانتقال الديمقراطي في البلاد، وترفيعه سقف المساعدات الماليّة الموجّهة إلى تونس، خصوصا في مجالات الإصلاح السياسي، وترسيخ دولة القانون والمؤسّسات والتّنمية الجهوية والمحليّة، وتطوير الإعلام وتفعيل دور المجتمع المدني، وإسناد المسار الانتخابي. ومَنَح تونس صفة الشريك المميّز (19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012). وانطلقت مفاوضات إبرام اتّفاقيّة التّبادل الحرّ والشّامل (13 أكتوبر/ تشرين الأول 2015)، لبلورة صيغ تعاقدية لتوسيع التبادل التّجاري، بما يضمن أرفع درجات الاندماج الاقتصادي، ويفتح مجالا واسعاً لتبادل الصّادرات والواردات على اختلافها في الاتّجاهين.
ويثير مشروع هذه الاتفاقية جدلا كثيرا في الداخل التونسي، إذ انقسم الخبراء الاقتصاديون ومكونات المجتمع المدني بين مؤيّد له ومعترض عليه، فالمساندون لهذا التوجّه يذهبون إلى أنّ قيام شراكة اقتصادية شاملة مع الاتحاد الأوروبّي ستؤدّي إلى تأمين إدماج تدريجي كُلّي للاقتصاد التّونسي في الفضاء الأوروبي، وتحسين المنتجات التونسية، كمّا وكيفا ونوعا، وتيسير نفاذها إلى سوق أوروبيّة واسعة، تضمّ نحو 500 مليون مستهلك، وتعزيز نسق الاستثمار
الأوروبي في تونس، وتنويع مجالاته على نحوٍ يساهم في توفير تدفّقات مالية مهمّة للخزينة التّونسية من خلال تنامي حجم الاستثمارات الخارجيّة، وحجم الصّادرات الموجّهة من تونس إلى دول الاتحاد الأوروبي.
وفي المقابل، يرى المعترضون على مشروع اتفاقية التبادل الحرّ والشامل أنّها في حال إبرامها ستشمل مجالات الخدمات، والزراعة، والصّفقات العمومية، والتسهيلات الجمركية، وهي مجالات ظلّت الدّولة التّونسية تستثنيها من اتّفاقيات التّعاون مع منطقة اليورو بسبب عدم جاهزيّة هذه القطاعات للمنافسة الأوروبيّة. والتعجيل في إدراجها ضمن الشراكة الشاملة سينعكس سلبا على الاقتصاد التونسي. وسيؤدّي إلى تمكين الشركات الأوروبية من اكتساح السّوق التّونسية في مختلف المجالات، ومنافسة المنتج الوطني في مجالات استراتيجية مثل: الغذاء والصّحّة والبنوك والخدمات والطّاقة والصّفقات العمومية. ومن غير المؤكّد أن تتمكّن البضائع التّونسية من كسب معركة منافسة الوافد الأوروبي، ذلك أنّ قطاعات إنتاجية كثيرة في تونس ما زالت غير مؤهّلة لمزاحمة المنتجات الأوروبية عالية الجودة. ويخشى من أن يُفضي ذلك إلى إغراق السوق التونسية بالسّلع الأجنبية، ومواجهة الشركات التّونسية صعوبات مالية قد تؤدّي بها إلى الإفلاس وتسريح آلاف العمّال. وسيُشكّل التفكيك الجمركي وتحرير المبادلات التجارية بين الطرفين ضغطا على الميزانية العامة في تونس التي كانت تغطي نفقات كثيرة للدولة بالمداخيل المتأتية من الرسوم الجمركية، ورفع الأخيرة عن الصادرات الأوروبية سيُرهق الميزانية. كما أنّ تمكين أصحاب رؤوس الأموال الأوروبيين من الاستثمار في قطاع الخدمات الصحيّة سيساهم في تحرير تكاليف الاستشفاء والتداوي، وحرمان محدودي الدّخل من الرعاية الصحية المجانية، أو ذات التكلفة البسيطة، ما يعني استقالة الدّولة في هذا المستوى، وتراجع دعمها المفقرين والمنتمين إلى الطّبقة الوسطى. يُضاف إلى ذلك أنّ خصخصة المؤسّسات المصرفية العمومية والتفويت فيها للشريك الأوروبي سيحدّ من قدرة الدولة على بعث مشاريع إنتاجية، ويُقلّص مساهمتها في التنمية الجهوية، وفي إنشاء مؤسّسات تشغيلية، جاذبة لليد العاملة.
وبناء عليه، من المهمّ بلورة دراسة موضوعية لمشروع الشراكة الشاملة مع الاتحاد الأوروبي، وإدراك محاذيرها والفوائد المتوقعة منها، واتخاذ تدابير تساهم في تعظيم الاستفادة من الانفتاح الاقتصادي على أوروبا، وتقليل آثاره السلبية على المواطن عموماً، وعلى المنتج التونسي خصوصاً.
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.