أفعال مشينة

15 ديسمبر 2017
+ الخط -
يصعب على من يقرأ كتاب "الفعل المشين"، للباحث التركي تنار أكشام، (ترجمة كيفورك خاتون وانيس)، أن يهرب من التشابهات بين سرد الكتاب لسياق المأساة التي تعرّض لها الأرمن قبل الحرب العالمية الأولى وفي أثنائها، وما عاشه ويعيشه السوريون منذ مطلع العام 2011. يلاحظ المترجم، سوري الجنسية، هذا التشابه، ويعتبره أحد دوافعه للإقدام على الجهد المشكور في ترجمة الكتاب.
على خلفية ضعف الإمبراطورية العثمانية وانكماشها، رأت النخبة العثمانية الحاكمة في مطالبة الأرمن بالإصلاحات والحصول على حكم ذاتي مؤامرة أوروبية، بغرض "اقتلاع أحشائنا" و"بداية إفنائنا الشامل"، حسب تعبير السلطان عبد الحميد الثاني الذي أكد للسفير الألماني لدى الباب العالي: "أقسم أنني أفضل الموت على قبول إصلاحات تقود إلى حكم ذاتي للأرمن".
وقعت مجازر ضد الأرمن بين 1894-1896، وراح ضحيتها 80 ألف أرمني حسب أدنى التقديرات، فيما قدّرت البطريركية الأرمنية العدد بحوالي 300 ألف. السياق هو نشاط أرمني يطالب بالإصلاحات، يسانده ضغط خارجي لا تستطيع السلطنة مواجهته بسبب ضعفها، فتوافق السلطنة على الإصلاحات مرغمة، لكنها ترتد على الأرمن بالمجازر بوصفهم خونة وعملاء. سيكون هذا تمرينا مبكرا للعرض الأساسي الذي ستشهده السلطنة بعد حوالي عقدين.
لتفادي المسؤولية، وللتملص من الضغوط الخارجية، لا تقوم المؤسسات الرسمية للدولة بعمليات القتل والتشريد، لكنها تقف مكتوفة اليدين أو تسهل عمل من يقوم بالقتل، ومن يقوم بالقتل هم جماعات منظمة غير رسمية تنفذ السياسة غير المعلنة للدولة، إنها الباطن النتن للدولة. خلال الحرب العالمية الأولى، اتخذت هذه الجماعات في السلطنة اسم "تشكيلات مخصوصة".
انطوت الإمبراطورية العثمانية على خلل أولي، تفجر لاحقاً في وجه مسيحيي الإمبراطورية 
(الأرمن خصوصا). الخلل أن الإمبراطورية العثمانية جمعت بين فكرة وحدة الشعوب والاستناد إلى عقيدة دينية (الإسلام) تمنح التفوق لجماعة على غيرها، أي عقيدة مضادّة لفكرة وحدة الشعوب. حاولت الإمبراطورية، وهي في طور الأفول، وتحت ضغط الخارج، أن تصلح هذا الخلل باعتماد مبدأ المساواة القائم على "المواطنة العثمانية"، لكنها فشلت، لأنه لم يكن من السهل الانقلاب على أيديولوجيا التفوق الديني الإسلامية المتغلغلة في المؤسسات، وفي وعي الأكثرية المسلمة، وأيضاً لأن الخارج لم يكن يريد من الضغط بفكرة المساواة أن يصلح حال الإمبراطورية، بل أن يفجرها بالأحرى ويتقاسم تركتها.
دفع هذا الخلل إلى التحول من فكرة "العثمانية"، أي وحدة الشعوب ومبدأ الاختلاف وعدم التجانس في ظل الإمبراطورية، إلى فكرة الجامعة الإسلامية القائمة على مبدأ التجانس، ما ساعد في عزل الأرمن وتهيئتهم ليكونوا ضحية تفكك الإمبراطورية، وقربان نشوء الأمة التركية. قاد الأرمن إلى مأساتهم ثلاثة عناصر متضافرة: عنصر يتعلق بالهوية الدينية (مسيحيون في وسط مسلم)، وعنصر سياسي يتعلق بصلتهم مع الخارج (روسيا، بريطانيا، فرنسا)، وعنصر جغرافي هو وجودهم في منطقة الاناضول، أي في "أحشاء" الإمبراطورية، وليس في منطقةٍ طرفيةٍ يمكن التراجع عنها، كرومانيا أو صربيا أو مصر مثلاً.
إذا كان التحول من الرابطة العثمانية إلى الرابطة الإسلامية قد خدم في عزل الأرمن المختلفين دينياً وإبادتهم، فقد ظلت الرابطة الإسلامية التي تنطوي على شعوب لها تطلعات متضاربة تفتقر إلى الصلابة الكافية لمواجهة خطر "الإفناء الشامل" الذي يريده أعداء السلطنة، كما حدس عبد الحميد الثاني. لا حاجة للقول إن خطر الإفناء الشامل، كما يتصوره السلطان، يستهدف العنصر التركي.
في هذا المجال السياسي والإيديولوجي المضطرب، برزت فكرة القومية التركية التي كان للهزائم والخسارات المتتالية والشعور بالضعف أمام الدول العظمى الطامعة، و"بالشرف التركي الملطخ"، أن تشحنها بطاقةٍ كبيرة تصل إلى حدود الفاشية (أنور باشا يتحدّث عن البلغار واليونانيين والصرب "عبيدنا"). وكانت هذه الفكرة (الإيديولوجيا) تتكئ على الرابطة الإسلامية من حين إلى آخر، لكنها راحت تقوى وتتبلور مع مصطفى كمال وحركته القومية، كإيديولوجيا سياسية محدّدة ومضادة للدين الإسلامي بوصفه رابطة. الطاقة الكامنة في الفكرة القومية الوليدة مزقت الرابطة الإسلامية، كي تمنح الضوء والهواء للجمهورية التركية.
وقعت مجازر الأرمن، قبل تبلور الفكرة الكمالية التركية المضادة للرابطة الإسلامية وللرابطة الطورانية معاً. كان مصطفى كمال حريصاً على تجنب إعلان الصلة بالاتحاديين الذين خططوا ونفذوا عملية الإبادة، في حين أن حركته هي استمرار لفكرهم القومي. بهذا تخلص كمال من الثقل المعنوي لأفعال الاتحاديين، وترك لنفسه مسافةً تسمح له بوصف ما أقدموا عليه ضد الأرمن بـ"الفعل المشين". ضم مصطفى كمال إلى حركته وحكومته اللاحقة زعماء اتحاديين فارّين من المحاكمات بتهمة تلك المجازر، واستطاع أن يسترجع سجناء الاتحاديين من السجون البريطانية في مالطا، ليضعهم في مناصب عليا في حكومته، لكنه كان يدرك، ببعد نظره، أنه لبناء الجمهورية التركية الجديدة، لا بد من التحرّر السياسي والأخلاقي من ذاك "الفعل المشين".
بقوة المنطق الذاتي للفكرة القومية، تم تحميل الضحية مسؤولية مأساتها، من طلعت باشا (ت 1921): "تعود مسؤولية الأحداث بالدرجة الأولى، وقبل كل شيء، إلى الذين تسببوا بحدوثها"، إلى مصطفى كمال (ت 1938): "أياً كان الذي وقع للمجتمعات غير المسلمة التي تعيش في بلادنا، فإن ذلك ناجم عن سياسات التقسيم المدعومة بالمؤامرات الأجنبية واستغلال امتيازاتهم عبر أكثر الطرق بربرية"، وصولا إلى عصمت إينونو (ت 1973): "مسؤولية الكوارث التي حلت بالمجتمع الأرمني ضمن الإمبراطورية العثمانية يتحملها المجتمع الأرمني نفسه".
عصب السياق العثماني الذي انطوى على مآسٍ إنسانية رهيبة، يمكن تلمسه في السياق السوري الراهن. الخلل العميق في النظام السوري (انعدام وجود آلية لإنتاج شرعية سياسية تسمح باستيعاب الحاجة إلى التغيير)، التهديد الجدّي (الثورة السورية المطالبة بتغيير النظام وسعي الدول إلى استغلالها وإدراجها في سياساتها الخاصة)، العجز السياسي واعتماد العنف بوصفه الوسيلة الأساسية للتخلص من الخطر، ثم تغطية خيار العنف بحملة تضليل ثقافي وإعلامي يؤدي إلى نسف الرابطة الوطنية لصالح الرابطة السياسية.
في الحالتين، خلقت بيئة المجزرة عن طريق تصوير جماعة معينة (في السلطنة كانت كتلة 
دينية عرقية تطالب بحكم ذاتي، وفي سورية كانت كتلة سياسية تطالب بتغيير النظام) بأنها خطر على الوطن وأداة للخارج، أي إنها خائنة. ساد، في الوسط التركي، الكلام عن الأرمن بوصفهم عملاء وخونة، وفي سورية صارت كلمة معارض سياسي، في الوعي الذي جرت تهيئته لتقبل المجزرة، تعادل كلمة خائن.
على مستوى التنفيذ، في مقابل "تشكيلات مخصوصة" غير الرسمية التي قدّمت "خدماتٍ لم تكن للحكومة والقوات العامة أن تتصور إنجازها"، والتي نفذت المجازر في الحرب العالمية الأولى "لإخفاء تدخل حكام الولايات والمسؤولين الآخرين"، كما يقول أحد القادة الاتحاديين، نجد في سورية جماعات الشبيحة غير الرسمية التي ترتكب الفظائع، وتعفي الدولة من مسؤولية القيام "بالأفعال المشينة".
"الجماعات الخائنة" مستباحة طبعاً، لأنها مستهدفة من المؤسسة (الدولة) التي يُفترض أن تحميها، من الطبيعي أن نجد إذن، ولو على بعد قرن، تشابهاً في السلوك إزاء أملاك هؤلاء "الخونة" ومقتنياتهم. النقطة المؤلمة هنا هي انسياق الناس المدنيين، ليكونوا أداة في السياسة المشينة. جاء في تقرير كتبه القنصل الأميركي في 13 أغسطس/ آب 1915: "كانت حشود من النساء والأطفال الأتراك تتبع الشرطة مثل نسور تستولي على كل شيء تصل إليه مخالبها، وبعد أن تقوم الشرطة بأخذ الأشياء الثمينة من البيت، كانوا يندفعون إلى الداخل ويأخذون الباقي. أرى هذا السلوك كل يوم بأم عيني". في الجانب السوري ظهرت ممارسات مشابهة سميت "التعفيش"، أي نهب مقتنيات الأهالي المهجرين أو المقتولين، تقوم بها العناصر المشاركة في القتال، ويتم إدخال المدنيين في هذه الحلقة ببيع المنهوبات في أسواق خاصة.
لا شيء يسوّغ عمليات القتل الواسع والإبادة بقدر ما تسوغه القضايا الكبرى. الكلام اليقيني باسم الوطن أو باسم الأمة أو باسم الثورة، يفتح الطريق أمام المجزرة، ويحشو بطن التاريخ بمآسي ومظالم كثيرة تسمم المستقبل. ولا تختصر المجزرة بالمجرم، ولا تنتهي بمحاكمته على أهمية ذلك، لأن وراء المجرم بيئة سياسية أنتجته ومكّنته، وجاهزة لإنتاج وتمكين غيره، بانتظار مزيد من المجازر.
F5BC3D9E-B579-43CA-A6C4-777543D6715D
راتب شعبو

طبيب وكاتب سوري من مواليد 1963. قضى 16 عامًا متّصلة في السجون السوريّة. صدر له كتاب "دنيا الدين الإسلامي الأوّلَ" (دراسة) و"ماذا وراء هذه الجدران" (رواية)، وله مساهمات في الترجمة عن الإنكليزيّة.