الإرهاب المعولم وما قاله عاطف أبو بكر

28 نوفمبر 2017

عاطف أبو بكر: أبو نضال ابتزّ السعودية والإمارات

+ الخط -
يحتاج الكاتب أحياناً إلى أن يضع إبهامه وسبابته معاً على مقدمة أنفه، ويضغط عليهما قليلاً، ويودّ، في مراتٍ نادرة، أن يمسك بقطعة قماش جافة، ويلفها حول قلمه، ليتخفّف من الروائح الكريهة، ويقي نفسه من العناء ما أمكن، وذلك إذا ما قرّر الخوض في تقليب سطح بركةٍ آسنة، مضى على ترسب مياهها نحو أربعين سنة، ظلت متروكةً على قارعة الطريق، تتجاهل ردمها السلطات البلدية المختصة، وتشيح عنها وجوه العابرين كلما مرّوا بجانبها مسرعين، كل في حال سبيله.
هكذا وجدت يديّ ثقيلتين ونفسي ملتاعة، وأنا أقارب بصعوبة ظاهرة "أبو نضال" الكريهة، والتي أعادتها إلى الذاكرة الجماعية المقابلة المطولة (أربع حلقات) والتي بثها تلفزيون العربي، مع عاطف أبو بكر، مستودع أسرار تلك الشخصية الإجرامية التي ظهرت في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي، وقارفت جملةً طويلةً من الاغتيالات أكثر من عقد ونصف العقد، قبل أن تنطوي صفحتها الدامية بمقتل زعيمها، في العام 2002.
وأحسب أن لا أحد يرغب في استعادة فصول تلك الفترة العصيبة من حياة الفلسطينيين والعرب، ولا أن يسترجع أياً من وقائعها المروّعة. ومع ذلك، كان من المفيد أن يقص علينا رجلٌ، كان من أقرب المقرّبين من صبري البنا (أبو نضال)، إن لم نقل صندوقه الأسود، بعضاً من حقائق تلك الحكاية التي غاصت في عمق أعماق تاريخ هذه المرحلة المفتوحة بعد على حكايات أخرى مماثلة، لعل الشيء بالشيء يذكر، طالما أننا لا نزال في خضم ظاهرة إجرامية أكبر، تعتبر بمثابة البنت التي فاقت أمها في الفجور والرذيلة.
والحق أنه لم يتسن لي مشاهدة كل تلك الحلقات المثيرة من مقابلة عاطف أبو بكر على الشاشة، حتى أنني لم أتمكّن من إكمال أي حلقة منها، ليس لقلة الاهتمام أو لضغط عامل الوقت مثلاً، وإنما لأن بعض تفاصيلها كانت تثير لدي مشاعر القرف، وترفع ضغط الدم لدي أكثر فأكثر، على الرغم من أنني كنت أعلم سلفاً أن الوقائع المخفية أبشع مما نعرف، إلا أنني، وأنا أستمع للرجل مذهولاً، ظهر لي أن الأمر أشد هولاً مما كان يخطر في البال، عما قارفته تلك المنظمة التي ارتبط اسمها باسم الطاغية المؤسّس لها. إذ يذكر كل الذين عايشوا تلك الفترة الوسيطة من عمر الثورة الفلسطينية أن تنظيم أبو نضال قد اغتال عدداً من خيرة كوادر منظمة التحرير وممثليها في أوروبا، على خلفية الصراع مع قيادة المنظمة المقيمة في بيروت، وتحت ذريعة الاتهام لها بالخيانة والتفريط. ونذكر أيضاً أنه، في تلك الآونة المضطربة، قتل ذلك الإرهابي المجرم عدداً آخر من مساعديه والعاملين معه، من دون محاكمة بالطبع، بجريرة الخلاف في الرأي أو الشك فقط، الأمر الذي بدا معه أبو نضال كأنه آلة قتل متنقلة، راحت تحصد ما وقع في براثنها من القيادات الفلسطينية الشابة.

ولم تتوقف آلة القتل هذه عند هذا الحد، بل كرّست جل خططها لقتل القادة الكبار في حركة فتح ومنظمة التحرير. ومع أن أبو نضال فشل كثيراً في الوصول إلى أغراضه الشريرة، بما في ذلك اغتيال قائد الثورة ياسر عرفات، إلا أنه نجح، مع الأسف، في النيل من ركنيْن مهمين وتاريخيين، هما صلاح خلف (أبو إياد) وهايل عبد الحميد (أبو الهول)، وكان توقيت عملية الاغتيال المزدوج هذه مثيراً ومريباً، وبلا جواب حتى اليوم، كون العملية وقعت في غمرة الاستعدادات الأميركية لشن "عاصفة الصحراء" على العراق، بل عشية شن تلك الحرب.
فتح عاطف أبو بكر سلسلة من الجراح الكامنة في نفوس من عاصروا تلك المحنة، وأحسب أن لديه ما هو أكثر مما أفضى به إلى تلفزيون العربي، يحتفظ به لنفسه، وقد يفصح عنه فيما بعد، لا سيما أنه لا يزال يلتزم جانب الصمت والسرّية في حياته الخاصة والعامة، وكأن سطوة أبو نضال لا تزال قائمة، الأمر الذي يدعونا إلى مطالبته بكتابة مذكراته (إن لم يكن كتبها بالفعل) حول كل ما لديه من معطيات ووثائق وحقائق، عما وقف عليه، ورآه بأم العين، كونه أكثر الشهود اطلاعاً على خبايا مرحلة أبو نضال الغامضة في دوافعها، والمريبة في أفعالها الفظيعة.
ولعل الشيء الوحيد الذي لم يفاجئني في المقابلة، قدرة أبو نضال على ابتزاز الدول والحكام العرب، خصوصاً في دول الخليج، وبراعته في اقتناص الأموال اللازمة لتمويل عملياته الإجرامية، كونه كان يستخدم الإرهاب والخطف والاغتيال، ويهدّد بالويل والثبور وعظائم الأمور ضد من لا يستجيب لمطالبه المباشرة، وكونه أيضاً كان يستطيع التنقل بحريةٍ بين دمشق وبغداد، عاصمتي فرعي حزب البعث المختلفتين على كل شيء، عدا احتضانهما معاً، أو على التناوب، لظاهرة أبو نضال التي وصفها باتريك سيل "بندقية للإيجار".
من محاسن المصادفات التاريخية أن ظاهرة أبو نضال قد انقضت قبل أن تشهد بلادنا العربية ظاهرة أشد هولاً من سابقتها، وهي القاعدة، ومن بعدها تنظيم الدولة الإسلامية، إلا أنه يمكن القول، بتحفظ قليل؛ إن تنظيم أبو نضال كان الطبعة الأولى غير المنقحّة، لكل من التنظيمين الإرهابيين اللاحقين، التي استلهماها، على الأرجح، من التجربة التي كان قد مر عليها نحو ربع قرن، والدروس التي اشتقها أبو نضال من عالم الإجرام في وقت مبكر، قبل أن تتطور تلك المحاكاة إلى ما بات يعرف اليوم بظاهرة الإرهاب المعولم، والتي تماثل، مع اختلافات أيديولوجية، تلك المموهة بمزاعم ثورية ويسارية زائفة.
صحيحٌ أن كلاً من تنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية الإجراميين قد اكتسبا اسميهما، بوصفهما تنظيمين إرهابيين، عن جدارة واستحقاق كاملين، وهي تسميةٌ لم ينلها تنظيم أبو نضال الذي ظهر وباد قبل أن تشيع هذه التسمية، أو قل هذه الوصمة، نظرا لاقتصار أفعاله على الساحة الفلسطينية، مع بعض الاستثناءات التي كانت تخدم المخططات العدوانية الإسرائيلية (مثل محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن عشية الحرب على لبنان عام 1982)، إلا أن التنظيمات الثلاثة تشابهت حد التطابق في إجرامها، وارتدت أعمالها الإرهابية المروّعة على شعوب هذه المنطقة، تماماً على ما قدمته الشقيقات الثلاث من خدماتٍ طائلةٍ لأعداء هذه الأمة، سواء لإسرائيل في حينه، أو لإيران في هذه المرحلة.
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي