كتابة بعيدة عن البوصلة

23 نوفمبر 2017

(محجوب بن بلة)

+ الخط -
اعتدت أن أعمل على أكثر من كتاب في وقت واحد. شاشة الحاسوب أمامي تكاد تنفجر من كثرة الملفات المفتوحة عليها، بعناوين كتب أحدّث نفسي أنني سأنتهي منها قريبا، فيحدث أحيانا أن أنتهي من بعضها فعلا، وأقرّر الإجهاز على بعضها الآخر بالحذف النهائي أحيانا أخرى. وبين الحالين، تبقى بعض الملفات بانتظار السيد المزاج وحده ليتقرّر مصيرها!
قد تبدو هذه الطريقة في التأليف وإعداد الكتب للنشر عشوائيةً، أو فوضوية، ولا تؤدي إلى نتيجة واحدة بالنسبة لعشاق النظام والترتيب، لكنها ليست كذلك بالنسبة لي لحسن الحظ. ربما لأنني لا أجيد غيرها، وربما لأنها نجحت معي. لا أتذكّر أنني بدأت مشروع كتابٍ، وانتهيت منه من دون أن أعمل على مشروعات كتب أخرى، بالإضافة إليه. أعترف أنني شخص ملول، وأن مللي يجعلني لا أكاد أستقر على العمل في مشروع واحد حتى النهاية، وأنني خاضعةٌ لمزاجي العشوائي في الكتابة دائما، لكنني أعترف أنني لم أخسر الكثير من فرص الكتابة والتأليف والنشر بسبب ذلك. بل أستطيع أن أقول إن العكس هو الصحيح، فما أشعر بالملل من الاستمرار فيه أتركه فورا إلى غيره، بدلا من الركون إلى الفراغ والعدم وقلق الانتظار، والشعور بالذنب تجاه التقصير وتضييع الوقت.
والوقت الذي يبدو غير صالحٍ لإكمال قصيدةٍ كنت قد أفرغت إرهاصاتي الأولى فيها على الورق، أو لوحة المفاتيح، يبدو مناسبا جدا للعودة إلى إكمال مقال صحافي بدأت الفقرة الأولى منه على مكتب العمل، قبل أن يحين موعد عودتي إلى البيت، فأحمل ما تيسر لي منه وأمضي. وما أن أصل، حتى أتذكر أسئلة لقاء صحافي كنت قد أجلت الإجابة عنها مراتٍ، على مدى أسبوع كان كفيلا بانزعاج الصحافي من تسويفي، وسببا في اعتقاده أنني لا أرغب في إجراء ذلك الحديث.
أكمل هذا المشروع، وأكتب القليل من العبارات في مشروع آخر، فأجد في أثناء ذلك فكرةً تصلح للإجابة عن واحد من أسئلة اللقاء الصحافي، فأسجلها قبل أن أعود إلى المشروع الأول، أو أصادف واحدةً مما أسميها بالمهمات السهلة، تحت سقف الكتابة، مثل المراجعة، أو ترتيب الفصول، أو إعداد فهرس المحتويات، أو ربما التفكير بتغيير المقدمة.
في الماضي، كنت أتردد في الحديث عن تجربتي في الكتابة والنشر على هذا النحو أمام الكتاب الشباب. لا لأنها تبدو طريقة غير مثاليةٍ لكاتبة محترفة وحسب، ولكن أيضا لأنها قد تغري بعضهم باعتمادها من دون أن تكون الطريقة المناسبة له، فيضيع في دروب الأبجدية المتشابكة، ويبقى دمه معلقا في رقبتي وحدي! ولهذا كنت أجتهد في اختراع إجابات مثاليةٍ، تحث على تنظيم الوقت، وترتيب العمل، وعدم الخضوع للفوضى والعشوائية، لكنني في الآونة الأخيرة وجدتني لا أبالي بمن يبحث عن طرق الآخرين في كل شيء، ليسير عليها خوفا من الضياع! كنت أقرّر بيني وبين نفسي أن هذا الكاتب المفترض ليس سوى مدع صغير، ما دام غير قادر على فهم الإبداع بصفته مغامرة في المجهول من دون حساباتٍ مسبقة، وما دام حريصا على البحث عن أكثر الطرق التي تقوده إلى سدرة منتهى الإبداع، ذلك أن المبدع الحقيقي لا يحمل بوصلةً في جيبه، ولا يعرف قراءة لغة الخرائط، وليس من المهم بالنسبة له أن يصل إلى نقطة ما في طريقه المستمر، فهو ليس بحاجةٍ لسوى شغفه، لكي يطلق له صافرة البداية، وحدسه كي يقوده إلى قدره بالكلمات، حتى لو أودت به إلى التهلكة في النهاية. الإبداع في واحد من معانيه الخبيئة تهلكة مؤقتة.
دلالات
CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.