الأردن.. شعبية الحكومة والصديق الروسي

13 نوفمبر 2017
+ الخط -
يخرج استطلاع مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، بعد عام على حكومة هاني الملقي، ليضعها في أدني الشعبيات، وفقاً لتاريخ الاستطلاعات التي كان بعض رؤساء الحكومات يسعون إلى التأثير عليها وإصابتها بالتدخلات والضغوط، لكن في المجمل ظلَ مسار الاستطلاعات على قدرٍ من الحياد والعلمية، وكاد مؤسس تقليد الاستطلاعات، الدكتور مصطفى حمارنة، إبّان توليه رئاسة المركز الذي حصّنه من التدخل وهيمنة الأجهزة، أن يفقد موقعه في أثناء حكومة عبد الرؤوف الروابدة عام 1999، بسبب رأيه آنذاك في الحكم الجديد وخبرة الملك عبدالله الثاني، وتلك الواقعة مؤشر على حجم تأثير المركز وتناميه ومحاولة لجمه.
باتت الاستطلاعات التي يجريها مركز الدراسات الاستراتيجية فعلاً مؤرقاً للحكومات الأردنية منذ العام 1996، وتصاعد تأثيرها في حكومتي عبد الكريم الكباريتي (1996- 1997) والروابدة (مارس/ آذار 1999 – يونيو/ حزيران 2000)، وحاولت حكومة نادر الذهبي (2007-2009)، والتي نجحت يومها في السيطرة على الإعلام والنخب، أن تؤثّر، بشكل أو بآخر، على الاستطلاعات، والتي أعطتها ثقة عالية، فقد منحها استطلاع المركز بعد عام نسبة 62% في القدرة على أداء مهامها، وقدرة الرئيس على تحمّل المسؤوليات، وأيضا منحها البرلمان يومئذٍ ثقة 97 نائبا من أصل 110 نواب في المجلس الخامس عشر. لا بل وصل الأمر إلى حدِّ وصف نادر الذهبي إعلاميا بالرئيس الاستثنائي، وكان أهم ما في رصيده أن شقيقه الجنرال محمد الذهبي مدير المخابرات الأردنية يومها.
مع ذلك، أخذت الاستطلاعات تستقل من التأثير عاماً بعد عام، لكنها أثبتت أن أفضل الحكومات الأردنية في ميزان الثقة الشعبية، ولدى النخبة، لم تكن أكثرها إنجازاً أو أقل فساداً، بل قد تكون أكثرها إثارة للإشكالات والخيبات، ليكتشف الكل أن الرؤساء الأكثر ثقة بالتقييم الاستطلاعي ظهر لاحقاً أن بعضهم من الأكثر ارتباطاً بسوء إدارة الأزمات والصفقات والفساد، (مثلاً أزمة البورصات في حكومة الذهبي، وعدم الإفادة من انخفاض سعر النفط عالمياً، وفساد الانتخابات وتزويرها).

الاستطلاعات مهمة، وهي منجز كبير في الجامعة الأردنية، لكنها قد تكون غير دقيقة، ومتأثرة بالراهن وتداخلاته، فالوضع الآني في الاستطلاع الجديد بشأن حكومة هاني الملقي الحالية قد لا يعكس رسوب الحكومة، بقدر ما يشرح ظروفها وأدائها والإرث الذي ملكته؟ ولا ننكر أن الملقي نفسه في تعديلاته التي لم تسعف حكومته ساهم في إضعاف حكومته. لكن الأرجح أن توقيت الاستطلاع أثرَ بالنتيجة، فقد أُجري في ظل شعور الأردنيين بانكشاف ظهرهم، وتصاعد أزماتهم المالية، فهم إذ وقفوا مع السعودية والإمارات في الحرب في اليمن، ولم ينالوا شيئاً مما نالته مصر التي كانت اختصمت مع السعودية قبل عام إلى وضع حرج. وفي المقابل، فإن دولا مثل المغرب، وهي حليف للسعودية، استطاعت الوقوف مع مصالحها في الأزمة الخليجية الراهنة مع قطر. ويضاف إلى ذلك بلوغ المزاج الشعبي الأردني أسوأ حالاته في ظل الحديث عن رفع الدعم المالي عن الخبز، وتضاعف خدمة الدين، وارتفاع البطالة إلى حدود غير مسبوقة.
إرث هاني الملقي الزمني صعب أيضاً، ولعب دوراً في خفض التوقعات من حكومةٍ تشابهت ظروفها مع حكومة عدنان بدران (إبريل/ نيسان – نوفمبر/ تشرين الثاني 2005)، وقد قالت الأرقام، في استطلاعاتٍ أخرى، أجرتها جهات عدة، بعد مائة يوم على تشكيل الحكومة، بأن حكومة بدران تفوقت على حكومة الملقي في مؤشر الإخفاق، فالحكومتان ضُربتا بمقولة انعدام خبرة إدارة الشأن العام عند رئيسيهما، لكن الضربة الأشدّ وجعاً كانت الإرهاب الذي ضرب فنادق عمان في حكومة عدنان بدران. وفي حكومة الملقي، تكررت الحوادث في البقعة والركبان والكرك، بالإضافة إلى الأخطاء الإدارية، مثل تعيين وزير ليوم واحد، ثم إقالته، وغير ذلك من القضايا التي ليس جديدها حادثة السفارة الإسرائيلية في يوليو/ تموز الماضي، وما رافقها من سوء إدارة وارتباك.
وسواء قبلنا بمقولة سوء الطالع، أو انعدام الخبرات، فمن المهم القول إن الحكومات في الأردن لا تدير الشأن العام في البلد وحدها، فهناك مطابخ ومجالس عدّة تفرض وتشارك وتقرّر، وتؤخر التصرف وتضعف الحكومة أيضاً. وإذا كانت حكومة عبدالله النسور (2013 - 2016) خرجت بعد أربعة أعوام بمقولة إنها مررت البلد من الأزمات، وتلقت بشخص رئيسها ردات فعل الشارع التي كانت تعلو قبل مجيء النسور، والتي كانت تشير مباشرة بالنقد نحو اسم الملك، فإن حكومة النسور، وإن تشرّفت بتمثيل واقي الصدّ الشعبي عن الحكم، فهي أيضاً من تشرّفت برفع المديونية بشكل كبير، والإجهاز على مجلس النواب، وجعله رهينة بيد القصر والحكومة. بينما لم يملك الملقي هذا، ويواجه النواب الذين أرادوا في عهده استعادة هيبة المجلس التي فقدت إبّان سلفه، كما أنه يملك الحساسية الكافية، على ما يبدو، لعدم منح أي نائب منافع في مقابل كلفة التصويت على الثقة به، أو لتمرير الموازنة. ويضاف إلى ذلك تنامي الغضب الشعبي من انعدام الحلول في الاقتصاد.
يأتي هذا الانكشاف في الأردن اليوم، في ظل ظروف الإقليم، وهو يعيش أكبر أزماته، وفي مقدمتها فقدان محيطه قيمته وتراجع دوره، فالمحيط العربي مثقلٌ بالأزمات، والأشقاء الفلسطينيون رتبوا أمورهم بمعزل عنه، والعدو الإسرائيلي يمارس الضغط عليه من باب الاقتصاد، حيث توقفت، منذ حادث السفارة، مرور البضائع الأردنية إلى ميناء حيفا.
في المقابل شمالاً، حيث الجار السوري، قد يحدث تطور يفتح بوابة جديدة بالتواصل مع النظام السوري مباشرة، وكانت تصريحات رئيس مجلس الأعيان، فيصل الفايز، قبل نحو شهر، إنه "لا بديل عن الأسد"، ذات دلالة على النظرة الأردنية إلى الأزمة السورية، ما يشي بأن الخبر الذي نفاه موقع عمّون الإلكتروني بعد نشره، عن وجود نية لتواصل رسمي أردني سوري
برسالة منقولة من الملك عبدالله الثاني إلى بشار الأسد، هو على الرغم من النفي، إلا أنه يعكس هواجس الدولة، والواقع الذي يتطلب اختراقا حقيقيا في المسار السياسي.
في هذا السياق، نجح الأردن مرحلياً بالبحث عن صديق أثبتت تجربة الأزمة السورية وفاءه لأصدقائه أكثر من الأميركان، أي الروس، فحسب معلومات دقيقة، كان للتفاهمات الأردنية الروسية والعلاقات الوثقية أثرها في الضغط على نظام دمشق بخفض مناطق التوتر جنوب سورية، ومنع وصول مليشيات إيرانية إلى الجنوب السوري، وقد جاء هذا الأمر بناء على التنسيق الأردني الروسي المشترك.
شرقاً، يقف الأردن في حيرةٍ تجاه الخليج، فهو وإن كان منتظراً منه التدخل في الأزمة، بصفته رئيساً للقمة العربية، إلا أنه آثر التريث، وخصوصا بعد أن زار الملك عبدالله الثاني الكويت، عقب اندلاع الأزمة بقليل، ليكتشف أن الخلاف كبير والهوة سحيقة، وأن من الواجب إعطاء الفرصة لأمير الكويت الذي مثّلَ دور الرجل "العَود" في الثقافة العربية، والذي كانت تصريحاته أخيرا، عن مخاوف انفلات عقد مجلس التعاون الخليجي، ذات مدلول على نفاد الصبر من عدم إنجاز الوساطة أي تقدم.
في المآلات الأردنية اليوم، يبدو أن الحكم لا يريد التدخل بملفاتٍ أكبر من قبضة يده، لكن في الداخل يواجه وطنٌ بكامله بأسئلةٍ عديدة، أهمها اللجوء السوري الذي يمثل خطراً كبيراً على بنيته الاجتماعية، وقواعد الحكم ذات الصبغة الولائية، وصعوبات العيش والبطالة والجوع وتردي التعليم.
أخيراً، وبالعودة إلى تدنّي شعبية الحكومة الأردنية، في استطلاع الرأي لمركز الدراسات الاستراتيجية، فهي وإن كانت الأدني في سلم الشعبيات، إلا أنها قد تكون الأبعد عن الفساد، وممارسة الضغوط وشراء الإعلام ومواقف النواب والمقاولين، وهو أمر مارسته الحكومات السابقة بحرفيةٍ، أدّت بالأردن إلى هذا الحال، لكن ليس في هذا تبرير لأخطاء حكومة هاني الملقي وتراجع شعبيتها، وانعدام قدرتها على إحداث التغيير الذي قد تكون فكرة العاصمة الجديدة كافية للبدء به.
F1CF6AAE-3B90-4202-AE66-F0BE80B60867
مهند مبيضين
استاذ التاريخ العربي الحديث في الجامعة الأردنية، ويكتب في الصحافة الاردنية والعربية، له مؤلفات وبحوث عديدة في الخطاب التاريخي والتاريخ الثقافي.