المواطنة والتديّن

10 أكتوبر 2017
+ الخط -
ظل دارجاً سنوات طويلة، في عالمنا العربي، وجود أناشيد دينية يستمع إليها الشباب المتدينون، ممن ينخرطون في تنظيمات الإسلام السياسي التي يشار إليها باعتبارها "معتدلة" (تفريقاً لها عن الجماعات الإرهابية)، تتناول كلماتها مبادئ تؤمن بها تلك التنظيمات، وتروجها من خلال هذا الشكل الدعائي الرائج بين الشباب.
وقد بثت محطة إذاعية محلية في الأردن، "إسلامية" الطابع، أنشودة "دينية" تمجّد كلماتها "الهجرة إلى الإسلام"، وتقول ما معناه إن ثمة فتية نذروا أنفسهم لله، ولم يعودوا يعترفون إلا بالإسلام وحده وطناً لهم؛ أي إنهم في اعتقادهم ذاك يكبرون عن الأوطان بمعناها الجغرافي.
وعلى الرغم من أن الإذاعة تنتمي إلى ذلك التصنيف "المعتدل"، فإن كلمات الأنشودة ذكّرتني بالعقيدة التي تروّجها تنظيمات متطرفة، تدعو إلى عدم الاعتراف بالانتماء للأوطان والأماكن، وإنما للإسلام بما هو فكرة، على المسلم أن يسعى إلى تطبيقها في كل مكان، فلا يرتبط بمكان بعينه، وإنما يهاجر في كل الأرض، من أجل أن يجاهد لنشر الإسلام.
الجهتان: "المعتدلة" التي تتبنى مفاهيم تلك الأنشودة و"المتطرفة" التي تروج فهما متطرّفا للإسلام، تحملان إذن التصور نفسه عن الانتماء الوطني، وتقولان إن الانتماء للأفكار والانتماء للأوطان يقعان على طرفي نقيض، ولا يجوز للمسلم الحق أن يشعر بارتباطٍ مع المكان. ولعل هذا التصور ليس رائجاً عند هاتين الجهتين وحسب، وإنما أيضاً عند ما بينهما من "تنظيمات إسلامية"، هذا فضلاً عن السواد الواسع من مجتمعات المسلمين وأفرادهم.
خطورة هذه الفكرة لا في ذاتها فقط؛ بما تعنيه من عدم الولاء للوطن، على أهمية هذه المسألة، وإنما أيضاً في ما تعكسه على صعيد الممارسة اليومية للمسلمين في مجتمعاتهم، فعدم الإحساس بالانتماء للوطن بحجة الانتماء للإسلام وحده الذي يرتفع فوق الأوطان، ينعكس سلباً على الالتزام بفكرة المواطنة التي باتت اليوم أهم أسس تنظيم المجتمعات الحديثة، وضمان تشاركها في إنهاض الدول وبناء قواعدها اقتصادياً وتنموياً ومعنوياً.
المواطنة في الأساس هي القاعدة التي تضمن المساواة بين الناس (المواطنين) في الدولة، على أساس القانون، متمثلة في الحصول على الحقوق نفسها، والالتزام بالواجبات ذاتها، بخاصة فيما يتعلق بالمسائل المدنية والسياسية، وما يتفرّع عنها من حرية الرأي والمشاركة والاختيار. فإذا شعر "مواطن" ما أنه لا ينتمي لوطنه، لأي سبب كان، حتى لو لاعتقاده بأن إيمانه أكبر من أن يلتزم باحترام ذلك الوطن، فإنه لن يلتزم قيم المواطنة مع أقرانه وشركائه في الوطن، ولن يشعر أنه يتساوى معهم، وسيرى، في لحظة ما، أن من حقه أن يتجاوز عليهم، وأن يأخذ دوراً ليس له أو حقاً يُفترض أن يكون لغيره.
وفي العادة، يتم إحلال قيم أخرى، يقال إنها دينية، محل قيم المواطنة، مثل التكافل والإحسان.. إلخ. لكن ذلك الإحسان لا يضمن المساواة التامة، ولا يوقف التجاوز على الحقوق وعلى "الدور"، فالتجاوز يحدث أحياناً بحجة القيام بأعمال إحسانية!
ما تجب الإشارة إليه أن مسألة عدم الالتزام بالمواطنة، وبالولاء الحقيقي للأوطان، مردّها لا أفكار الإسلام، أو أي أفكار أيديولوجية أخرى، انتشرت بين المسلمين المعاصرين، وإنما هي واحدة من نتائج تأخر مجتمعات العرب والمسلمين المعاصرين حضارياً، وعدم قبولها فكرة "العقد الاجتماعي" التي عليها تبنى الأوطان الحديثة. فدولنا كلها تأخذ الشكل الحديث في المؤسسات والقوانين، لكنها، من ناحية المضمون، لا تقبل تجليات هذا الشكل الحديث أبداً: فهي في حقيقة بنية مجتمعاتها، وفي ناحية ممارساتها الفعلية، ليس لها من "الحديث" نصيب، وعلى رأس ذلك التعاطي مع فكرة المواطنة ومقتضياتها.
هكذا، الادعاء بأن الإيمان بفكرة الإسلام يستوجب من صاحبه الترفع عن الولاء للوطن، ليس مردّه مضامين الإسلام بالضرورة، وإنما بحث مجتمعات المسلمين التي تحاول التهرب من الارتباط بالأوطان نتيجة لتأخرها الحضاري، عن حجج "تحلل" لها التحلل من الوطن، في الوقت نفسه الذي تعفيها فيه من تأنيب الضمير، وتقنعها أنها إنما تؤدي للأمة خدمةً أكبر من خدمة الأوطان!
1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.