الأحزاب والاستبداد والانفجار العربي الكبير

27 يناير 2017
+ الخط -
شكلت الظاهرة الحزبية إحدى أهم الظواهر التي عرفتها المنطقة العربية في ظل التجربة الاستعمارية، وعلى الرغم من استمرارها في الحياة السياسية العربية، إلا أنها لم تؤدِ الوظائف نفسها التي أدتها الأحزاب في التجربة الأم، ما أبقاها، إلى حد كبير، ظاهرةً غريبة بالنسبة للمجتمع العربي، فقد حافظت التشكيلات الاجتماعية التقليدية على دورها في إطار هذه المجتمعات (العشيرة، القبيلة، الطائفة، العائلة....)، حتى أن تجارب حزبية عديدة تندرج في خدمة هذه التشكيلات التقليدية.
ولدت الأحزاب السياسية في التجربة الغربية عند درجة معينة من تطور المجتمع لتنظيم انقساماته الحادة، ونقلها إلى خارج دائرة العنف، ما جعل التجربة الحزبية تولد في إطار مجتمع مدني، يملك من السمات ما يدعم هذه التجربة بعقد اجتماعي متوافق عليه مجتمعياً وسياسياً، يقوم على أسس واضحة، في مقدمتها: استقلال المجال الاجتماعي بالنسبة للمجال السياسي، ومرونة العلاقات الاجتماعية التي تضفي على انتماء المواطنة قيمةً أصلية، وتحول العلاقات الترابطية في البناء الاجتماعي من علاقات عمودية إلى علاقات أفقية، فتم إقرار التعددية وتداول السلطة، وحقوق الإنسان، والاختلاف، وحرية التعبير عن الرأي.. إلخ، ما جعل اللعبة السياسية تقوم على قواعد وأسس واضحة، لا يشكل الإلغاء أحد قواعدها المكوّنة.
حملت التجربة الحزبية العربية أثقالها من زمن الاستعمار إلى زمن الاستقلال، للتعامل مع شروط عمل جديدة، فقد حكمت بلداناً عديدة أحزاب "وطنية"، أخذت تطبق "عقائدها" الظاهرة والباطنة، وهناك دول ساد فيها نظام الحزب الواحد باسم التحديث والتنمية والتقدم. حيث سيطرت على الفضاء الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي باسم تحقيق مشروع التنمية والاستقلال الوطني، في مقابل إشباع حاجات المواطنين في المأكل والمسكن والتعليم والصحة، وفي الوقت نفسه نزع تسيس المجتمع، واقتصار مزاولة السياسة على إطار واحد، ومنعه خارج هذا الإطار، باعتباره "متعهد التنمية". وأدى هذا النموذج إلى نتائج كارثية في الجزائر وسورية وليبيا ومصر واليمن.
أفرزت تجربة الدولة العربية الحديثة سمات متناقضة مع الشعارات التي رفعتها، فلم تستطع
استكمال مشروعها في الواقع الاجتماعي ـــ السياسي سلطةً تستمد شرعيتها من المجتمع، لأنها تريد أن تكون فوقه، وظلت تحمل معها ظواهر نقيضة للمشروعية، كالاستبداد السياسي وحكم الفرد وشخصنة السلطة بين الحاكم والدولة، ومحاولة اندماجها في الواقع الاجتماعي بتضييق الخناق على "المجتمع المدني". وبسبب هذا التوجه، تم الحفاظ على العلاقات العمودية وتدعميها، لأنها شكل ملائم لطبيعة عمل السلطات القائمة وتوجهاتها، فحافظت هذه المجتمعات في بيئتها الرئيسية على طابعها التقليدي. حيث بقيت متمسكةً بالعادات والتقاليد والانتماءات القبلية والطائفية والعشائرية، لتلعب دوراً رئيسياً في تنظيم المجتمع. لذلك، لم تؤد عملية التحديث الظاهرية، وهي أولى ظواهر التغيير الاجتماعي، إلا إلى إعادة تشكيل البنى والعلاقات البطركية وتعزيزها بإضفاء أشكال ومظاهر (حديثة) عليها، على حد تعبير هشام شرابي.
هذه البنية التقليدية التي أعيد إنتاجها في المجتمع بمظاهر حديثة، مترافقة مع التشوّه الطبقي، إضافة إلى طبيعة السلطة السياسية الاستبدادية، جعلت قدرة الأحزاب على التعبير عن شرائح المجتمع وطبقاته قدرة هامشية جداً ومشكوكاً فيها، لأن مجمل التكوين المجتمعي يدخل في علاقاتٍ خارجة عن العلاقات الرسمية، تخترق النسيج المجتمعي، بحيث تبدو التشكيلات الاجتماعية أسيرة هذه العلاقات، إلا إذا دخلت هذه الأحزاب في النسيج التقليدي للمجتمع نفسه، وأخذت تعبر عن مصالح هذه التشكيلات ظاهرة الأحزاب الطائفية.
في مثل تكوين تقليدي كهذا، جعل دور المؤسسات الاجتماعية الحديثة ذات تأثير هامشي، برز دور الجيش بوصفه القوة السياسية ذات البنية الأحدث. وفي ظل عدم قدرة الأحزاب على لعب دور سياسي مهم وملء الساحة السياسية، تقدمت الجيوش لملء الفراغ الذي شهدته المنطقة، فالمؤسسة العسكرية تتربع على عرش السلطة في المنطقة العربية منذ أكثر من نصف قرن، وهي أداة المستبد لخنق المجتمع.
لذلك، لا تشكل الأحزاب الثقل الرئيسي الذي تتمتع به جماعات أخرى، كالجيش والبيروقراطية، والتي تجد جذورها القوية في تراث هذه المجتمعات، بشكلٍ لا يقارن مع الأحزاب السياسية. ومن ناحية أخرى، هناك أهمية كبرى في حقل السياسات للجماعات التي تعتمد علاقات القرابة
والعلاقات الشخصية. وهي ساهمت مساهمةً كبيرةً في صياغة الحياة السياسية في المنطقة. وفي هذا السياق، وجدت الأحزاب إما باعتبارها واجهات سياسية، أو أبنية عامة تمارس الجماعات ذات البنية التقليدية أنشطتها من خلالها، كما أن هذه الجماعات تخترق، في أحيان كثيرة، وتصبغ الجماعات الأكثر رسمية، والقرارات التي تعزى إلى التنظيمات الرسمية، يمكن أن تكون في الواقع نتاجاً لهذه الجماعات. ما جعل الأحزاب مجرد تجمعات فضفاضة للتكتلات التي تعكس مصالح بنية تقليدية. وبذلك، لا تتعدى جذورها القشرة العليا للمجتمع. وفي داخل تلك القشرة، تكون الأحزاب مجرد أدواتٍ لذوي النفوذ التقليدي والنخب الصغيرة. لذلك، لم يخفف تنظيم الانتخابات الذي تكاثر قبل الانفجار الكبير في المنطقة من الاحتقان المجتمعي، ولم يؤشر إلى دور له معنى للأحزاب التقليدية، ما دفع قطاعاتٍ شعبية واسعة من خارج هذه البنى إلى احتلال الميدان العام مباشرة، والمطالبة برحيل السلطات التي تعفنت في مواقعها عقوداً، وكله تحت شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، لم يكن لأي من الأحزاب السياسية التقليدية المعارضة دور في هذا الحراك العظيم، وهي، في أحسن الحالات، لحقت متأخرة جداً بالحراك الشعبي.
عدم وجود قواعد واضحة للعبة الأحزاب، وفقدان العملية تداول السلطة والانتماءات الأفقية التي تجعل عمل الأحزاب مجدياً، جعل العمل الحزبي، منذ ولادته، مأزوماً وهامشياً، ما دفع "أحزاب الهوية" (الأحزاب الإسلامية، الأحزاب الطائفية) إلى اقتحام المسرح السياسي لتغيير قواعد اللعبة جوهرياً، على حد تعبير برتران بادي. وتتسم خاصية هذه الأحزاب بتشجيع هوية انتماء أخرى تحل محل انتماء المواطنة، بصفتها انتماءات متجاوزة للحدود الوطنية ــ الهوية الإسلامية، أو هوية جزئية ــ الهوية الطائفية. وعلى هذا، يختلف حزب الهوية عن غيره من الأحزاب، فمشروعه لا يندرج في صراع تنافسي من أجل السلطة السياسية، بقدر ما يندرج أساساً في مجهودٍ لتنشئة أخرى وحشد بديل، محبذاً هوية سياسية غير المعلنة رسمياً، ما يعني إنتاج تعبئة سياسية سلبية إلغائية، نموذجها الأبرز القوى الجهادية الإسلامية الأكثر تطرفاً.
فشل التجربة الحزبية العربية تفصيل مهم في ظل استبداد مديد، أفشل المجتمعات العربية في التوصل إلى "عقد اجتماعي"، يعيد تنظيم المجتمع وعلاقات القوة فيه، من خلال قواعد صراع سلمية، غير إلغائية بالمعنى السياسي والثقافي والاجتماعي وحتى الهوياتي. راكم هذا الفشل احتقانات سياسية واجتماعية وثقافية وهوياتية عقوداً. وهذه الاحتقانات هي التي أسست للانفجار التغييري الكبير الذي تشهده المنطقة منذ مطلع هذا العقد. وهذا الانفجار المتعثر هو بسبب من مشكلات بنيوية، كرستها سلطات استبدادية مديدة، لعبت دوراً تخريبياً عميقاً في بلادها، ما جعل مهمة بناء المجتمع وقواه الرئيسية الذي دمرته هذه السلطات في غاية العسر.
D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.