التحدّي الصيني لأميركا

23 يناير 2017
+ الخط -
ليس من السهل التنبؤ بما سيقوم به الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، وكيف سيتصرّف حيال وعوده الانتخابية، سيما وأن كلامه متناقضٌ، وبعض توجهاته تتعارض مع توجهات فريق إدارته، كما تظهر اختلافاتٌ بين أعضاء إدارته أنفسهم. لكن، يمكن الخروج باستنتاجاتٍ حول آرائه وأسلوبه، من أحاديث ما بعد انتخابه، من ضمنها توجهه العدائي نحو الصين، إذ يتهمها بشن حربٍ اقتصادية على بلاده، بسرقة وظائف الأميركيين، والتلاعب بالعملة لتعزيز وضع صادراتها. كذلك، يظهر من تصريحاته أنه يُفعِّل عقلية التاجر في رؤيته السياسية، فهو يهدّد بالتراجع عن أعرافٍ أو اتفاقيات التزمت بها الإدارات الأميركية السابقة، ليستخدمها ورقةً تفاوضيةً مع دولٍ وحكومات، لتحقيق الصفقة الأفضل لأميركا، وهذا يتجسّد في تلويحه بعدم الالتزام بمبدأ "الصين الواحدة"، ما لم تقدم الصين تنازلاتٍ اقتصادية، ما يعني تهديداً بدعم تمردٍ تايواني ضد الصين ووحدتها، وهو أمرٌ خطيرٌ بالنسبة للصين، الحسّاسة من أي تدخل خارجي يستهدف وحدتها وسيادتها.
للحساسية العالية للصين من التدخلات الخارجية ما يبرّرها في التاريخ الصيني، من حرب الأفيون مع بريطانيا، والاتفاقية المذلة التي فرضها البريطانيون على الصين بعدها، القاضية بتنازل الصين عن هونغ كونغ لبريطانيا، وفتح الباب على مصراعيه للتجارة البريطانية في الصين، إلى الاحتلال الياباني للصين، وما جرّه من أهوالٍ على الصينيين. أصبحت السيادة الوطنية، ورفض التدّخلات الخارجية، من المرتكزات الأساسية للسياسة الصينية. لذلك، تثير التحركات العسكرية في محيط الصين الجغرافي قلقاً صينياً كبيراً، وقد كان التوسع السوفييتي عامل توتير أساسي في علاقات الصين مع السوفييت، كما أن العلاقات الأميركية مع تايوان، وخصوصاً على صعيد التعاون العسكري، أثارت انزعاج الصين وغضبها.
بعد نهاية الحرب الباردة، بدا أن السياسة الأميركية تنحو باتجاه تطويق الصين واحتوائها، خصوصاً مع إدراك الأميركيين سرعة الصعود الاقتصادي للصين. سعت أميركا إلى وجود عسكري في جنوب شرق آسيا، وتعزيز العلاقات مع دولٍ لديها مشكلات مع الصين، أو تخوف منها، وزيادة مبيعات الأسلحة لتايوان.

لكن البراغماتية العالية هي أهم ما يميّز السياسة الصينية، وهي على الرغم من التنافس مع الولايات المتحدة، والريبة تجاه سلوكها في جنوب شرق آسيا، فإن حجم التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري معها ظلّ في تصاعد. انعكس التوجّه الصيني لتطوير الاقتصاد، منذ النصف الثاني من سبعينات القرن المنصرم، على السياسة الخارجية الصينية، فأصبحت القضايا الاقتصادية محدّداً رئيساً للمصالح الصينية خارج حدودها، وتالياً لعلاقاتها الدولية، وهو ما يفسّر علاقتها بالولايات المتحدة، كما يفسّر انفتاحها على العلاقة مع دول الخليج العربي، وآسيا الوسطى، وأفريقيا، لتنويع مصادرها النفطية، وهي أيضاً مهتمة بفتح الأسواق الاستهلاكية أمام المنتجات الصينية.
حتى الآن، لا يبدو أن الصين تسعى إلى تحمل أعباء دورٍ عالمي كبير، والصينيون يتحدّثون دائماً عن عدم وجود تاريخٍ توسّعي لهم، وأن التوسعية ليست واردةً في توجههم. لكن الصينيين يحاولون صياغة أولوياتٍ استراتيجيةٍ في مواجهة الولايات المتحدة، ولعل الأولوية الأهم هي تأكيد السيطرة على بحر الصين الجنوبي، وإحباط المحاولات الأميركية لزعزعة النفوذ الصيني في تلك المنطقة، لكن محللين صينيين يرون أن على السياسة الخارجية الصينية أن تتقدّم أكثر في مناطق أخرى، خصوصاً في المنطقة العربية، حيث الاهتمام الصيني بالوصول إلى مصادر الطاقة في هذه المنطقة، ما يجعل الطموح بإحياء طريق الحرير التاريخي ممكناً، لضمان تدفقٍ آمن للإمدادات النفطية، وهذا يدفع نحو دورٍ صيني أكبر لمزاحمة النفوذ الأميركي في آسيا الوسطى، وصولاً إلى المنطقة العربية، إضافة إلى زيادة التعاون مع قوىً تشارك الصين القلق من الهيمنة الأميركية، مثل روسيا وإيران.
يعبر موقف الصين من الملف السوري عن رغبتها في تحدّي أميركا، في بلدٍ خارج المحيط الجغرافي للصين، إذ استخدمت الصين حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن مراراً، ضد الرغبات الأميركية. وعلى الرغم من أن الفيتو الروسي كان حاضراً وكافياً، إلا أن الصين أرادت إيصال رسالة واضحة في هذا الصدد. ترفض الصين التدخلات الخارجية الأميركية، إضافة إلى انزعاجها من تحول سورية إلى مركز تجمعٍ للجهاديين، بمن فيهم جهاديون صينيون، غير أن حجم انخراطها في الأزمة لا يُقارن بانخراط روسيا مثلاً، وهو ما يجعل النزوع الصيني إلى أداء دورٍ يتخطّى محيطها الجغرافي ضعيفاً حالياً.
بالنسبة للأميركيين، القلق واضحٌ من الصعود الصيني، والعمل على احتوائه فكرة أساسية في السياسة الأميركية، لكن ترامب قد يذهب إلى مستوىً غير مسبوق من توتير العلاقات، عبر ضرب الجانب "الإيجابي" فيها، المتمثل في التعاون الاقتصادي. إذ يرى ترامب، على النقيض من أنصار العولمة الأميركيين، أن هذا التعاون أضرّ الطبقة العاملة الأميركية، وهذا ما يدفعه إلى تصعيد اللهجة ضد الصين، والتلويح بأكثر الأمور المزعجة للصينيين.
محاولات أميركا احتواء الصين في بحري الصين الجنوبي والشرقي قائمةٌ بالفعل، والمنطقة تعاظمت أهميتها في الاستراتيجية الأميركية خلال السنوات الأخيرة، على حساب مناطق مهمة تاريخياً مثل المنطقة العربية، لكن الإدارات الأميركية المتعاقبة حافظت على التعاون مع الصين، وأبقت التوتر معها في مستوىً معين، فيما يبدو ترامب، ومعه بعض أركان إدارته، مهجوسين برفعه إلى أعلى المستويات، لعلاج أزمةٍ داخليةٍ أميركية.
9BB38423-91E7-4D4C-B7CA-3FB5C668E3C7
بدر الإبراهيم

كاتب سعودي. صدر له كتاب "حديث الممانعة والحرية"، و"الحراك الشيعي في السعودية .. تسييس المذهب ومذهبة السياسة".