عن خطاب تبخيس الثورة في تونس

14 يناير 2017
+ الخط -
بعد ستّ سنوات من اندلاع ثورة الكرامة التي أخرجت تونس من زمن الدولة الشمولية إلى عصر الدولة التعدّدية، ومن نظام الحزب الواحد إلى نظام الجمهورية الديمقراطية، ما زال ينشط في البلاد خطابٌ دعائي، يؤسّس لتيئيس الناس من الثورة والتقليل من قيمتها، والتبخيس من دورها التاريخي في الانتقال بالناس من سجن الدكتاتورية إلى رحاب الحرّية. ويمكن للدارس أن يرصد هذا الخطاب الميّال إلى التحامل على الحدث الثوري، وتشويهه في الوعي الجمعي التونسي، من خلال ثلاثة مظاهر بارزة: محاولة الاستخفاف بأيقونة الثورة التونسيّة ورمزها الاحتجاجي، محمّد البوعزيزي. العمل على التهوين من قيمة المنجز الحقوقي للثورة، والتركيز على إخفاقاتها الاقتصادية. حرص بعضهم على شدّ الناس إلى الخلف، عبر تبييض حقبة ما قبل الثورة، وتلميع رموز الفساد والاستبداد زمن الدولة الأحادية.
ففي مستوى التعاطي مع صورة محمد البوعزيزي، جرى، في منابر تعبيرية تونسية مختلفة، الانتقال بصورة الفتى، على التدريج، من كونه شابّا ثائرا على نظام استبدادي جائر، ومعبّراً عن حالة الإحباط والتهميش التي يعانيها شباب المناطق الداخلية إلى كونه شابّا مغامراً، خارجاً عن القانون، وغير منضبط لأوامر الشرطة البلدية. بل انتهى الأمر ببعضهم إلى اعتباره مسؤولاً عن تصاعد النزعات المطلبية وانتشار الفوضى في المنطقة العربية. وجدّ آخرون في استحضار المؤسسة الدينية للقول بانتحاره أو استشهاده، وللخوض في سيرته في الدنيا ومصيره في الآخرة. والمراد من ذلك كله تهشيم رمزيّة البوعزيزي، والحطّ من قيمة فعله الاحتجاجي، والعمل على طرده من الذاكرة الشعبية، لأنّه تحدّى جبروت السلطة، وكسر جدران الصمت
المقيت، وأخبر العالم بشدّة عن توتّر العلاقة بين الحاكم والمحكوم زمن الدولة القامعة. وبدل أن يبحث منتسبون إلى النخبة التونسية في أسباب تضحية البوعزيزي بحياته، ليصل صوته إلى الحاكم وإلى العالم، انصرفوا إلى تشويهه والتهافت عليه. وغاب عنهم أنّه كان صرخة احتجاجٍ في وجه سطوة الدولة البوليسية، وأنّه كان سبب اندلاع ربيع ثوري عربي عارم، أطاح أربعة من عُتاة الطغاة في العالم العربي (زين العابدين بن علي، معمّر القذافي، حسني مبارك، علي عبد الله صالح).
وجدّ الخطاب الدّعائي المسكون بهاجس تشويه الثورة في توجيه النظر نحو حالة الإرباك الاقتصادي والانخرام الأمني الذي شهدته البلاد في مرحلة الانتقال الديمقراطي، ليبرهن على أنّ حدث الثورة ما كان نافعا للناس. بل كان سبب ضررٍ ومصدر خطرٍ وعنوان تراجعٍ في مجالات النماء والأمان. والواقع أنّ هذه المقاربة تجزيئية بامتياز، وتنطوي على مغالطةٍ مفادها اختزال المنجز الثوري في العائد الاقتصادي والاستقرار الأمني، وهما أمران على غايةٍ من الأهمّية لا محالة. لكن محدودية الأداء الاقتصادي والأمني في تونس بعد الثورة لا يمكن أن تحجب قيمة المنجز الحقوقي الذي كسبه التونسيون بعد 14 يناير/ كانون الثاني 2011، فقد مكّنت الثورة لحرية التفكير والتعبير، وأتاحت للمواطنين فرص المشاركة في الشأن العام، والانخراط في الأحزاب ومنظّمات المجتمع المدني، ورسّخت تقاليد الانتقال السياسي للسلطة، وأسهمت في التشريع للرقابة الدستورية والمدنية على الأجهزة التنفيذية، ودفعت نحو مساءلة الماضي ونقد الذات، ونحو إعادة كتابة تاريخ تونس بطريقة موضوعية.
كما أعلت الثورة، ولو نظرياً، من أهمّية الاحتكام إلى الدستور وتأمين استقلالية القضاء، ونتج عنها إطلاق مشروع العدالة الانتقالية، وتوظيف ثقافة الحوار والتوافق في إدارة أزمات الداخل التونسي. وتلك، لعمري، مكاسب حقوقية مهمّة، تتجاهلها أبواق تشويه الثورة التي ما فتئت تبذل الجهد لإعادة إخراج النظام القديم وتلميعه. وتكفي الإشارة، في هذا الخصوص، إلى أنّ المشهد الإعلامي في تونس بعد الثورة ظلّ يعجّ بأصواتٍ قديمة، تربّت على الولاء لنظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وكانت وما زالت تعتاش من هباته وتأتمر بتعليماته، وهي لم تصدّق بعد أنّ تونس قد شهدت ثورةً، وأنّ الدكتاتور وأسرته قد هربا خوفاً من هبّة الشعب في وجه مَن نهب ثروته، وصادر حرّيته وانتهك حقوقه. وتُروّج تلك الأصوات، عبر منابر إعلامية مختلفة، خطاب التشكيك في الثورة والإيهام بأنّها انقلابٌ من داخل النظام أو أنّها مؤامرةٌ خارجية دُبّرت بليل، وتُبرزها في هيئة فعل احتجاجي محدود ومعزول، وتستهين تلك الأصوات بدماء الجرحى والشهداء وبمعاناة سجناء الرأي، وتجتهد في تزويق صورة الدكتاتور وأعوانه، وتعمل على تبييض مرحلة حكمه، عسى أن يلتفت إليه الناس بعد هروبه.
يروم خطاب تبخيس الثورة استبلاه الناس، وممارسة الوصاية على عقولهم، مستخدماً أجهزة إعلامية متنفّذة، يُروّج من خلالها تزييف التاريخ وقلب الحقائق. لذلك، من المهمّ بيان تهافت هذا الخطاب، وكشف خلفياته وأهدافه، والعمل على إنتاج خطاب إعلامي، عقلاني، تنويري بديل، يخدم مطلب تعميم ثقافة الثورة والدمقرطة وحقوق الإنسان، ويحول دون هيمنة قوى الثورة المضادّة ودعاة الشدّ إلى الخلف.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.