سفينة رشيد ونظام في مصر غير رشيد

30 سبتمبر 2016

أقارب الغرقى يحتشدون في ميناء رشيد (27/9/2016/الأناضول)

+ الخط -
وقعت حادثة خطيرة، غرقت سفينة وعليها ما يقرب من خمسمائة إلى ستمائة من راكبيها المصريين وغير المصريين، في ما يعرف بهجرة غير شرعية. غرق الناس إلا قليلاً، وبدا الأمر حالةً مأساوية خطيرة، الأهالي يتجمعون على الشاطئ، وأجهزة الإغاثة تتباطأ إلى حد الاختفاء، وكأن الأمر لا يهم الكثير عند أهل الانقلاب، وما أوكل إليهم أمور إدارة البلاد والتسيير. يتعلق الأمر بتقدير هذه الأنفس وهذه الأرواح، فكيف لمنظومةٍ تستهين بكل شيء، وتقتل الناس بلا وازع ولا ضمير، أن تتحرّك لإنقاذ هؤلاء من الغرق، أو حتى تبادر إلى انتشال جثثهم؟ الأمر ليس على بالهم، وكأن حال لسانهم يقول: "يستاهلوا".
هنا، لا بد من أن نستدعي مشاهد أخرى، فها هو رئيس جهاز التعبئة والإحصاء، أبو بكر الجندي، يتحدّث عن المواطن العبء، وأن زيادة السكان في مصر نقمة في كل الأحوال. لا يلقي بالاً لأي كلام يوجد بين دفتي الكتب عن الموارد البشرية ورأس المال الإنساني، إنه أيضاً لا يقيم للإنسان وزناً منظورا إليه عبئاً. يتحدّث، وبكل غطرسة وغرور، عن أن بعضهم يقول إن الطاقة الشبابية تمثل ما يقرب من ستين في المائة من حجم السكان، ويعد ذلك ميزة، ويرى في ذلك العيب كل العيب، ويرى أن الشباب ليس إلا عبئاً على الإدارة والدولة. هكذا يتعامل هذا الذي يحصي أرقاما يراها عبئاً لا ميزة ونعمةً، لا يرى فيها إمكانية محتملة بتنمية ونهوض.

ضمن خطاب السلطة المفعمة بالاستبداد والفساد، وفي محاولةٍ منها للتأكيد على خطر المشكلة السكانية، وفي سياق ردِّ بعض إخفاقاتها التنموية إلى مشكلة الزيادة السكانية، ضمن هذا الخطاب، فهي تتراوح بين رؤيةٍ مالتوسيةٍ للمشكلة السكانية في مصر، رؤية تتضمن الإشارة إلى المواطن الغُرم، بما تُشكل كل زيادة سكانية، في عرف الحكومة، إضافةً سلبيةً تلتهم كل نمو، وتتآكل إزاءها كل معدلات التنمية، في مقابل الزيادة السكانية. بين هاتين الرؤيتين، يولد ما يمكن أن نسميه: المواطن العبء. وها هو رمزي زكي يقول: "كنت، وما زلت، أعتقد أن المشكلة السكانية في العالم الثالث ليست سبباً للتخلف، وإنما نتيجة له، وهي لا تعبر عن تناقض يقوم بين أعداد السكان والموارد الاقتصادية المحدودة، كما ذهب إلى ذلك المالتوسيون، بل هي، في حقيقة الأمر، تناقض يقوم بين السكان والنظام الاقتصادي-الاجتماعي السائد الذي يعجز، في ظل آليات حركته، عن أن يوفر الغذاء وفرص التوظف والدخل للسكان.
إذن، مجرى النهر السكاني طاقة إضافية وإمكانية مضافة، وسياسات المستبد تحولها إلى مغارم أو عبء..، ولكن حال تهرّب نظم الاستبداد من أعبائها جعل من نظرتها إلى السكان هذه النظرة، تبرّر بها عدم كفاية إنجازها وعدم قدرتها على الاستيعاب النوعي للزيادة السكانية، ما يجعل النمو الاقتصادي قد لا تلتهمه الزيادة السكانية بقدر، ما تستأثر بثماره قلة من السكان، في حين تظل الأغلبية الساحقة تعاني من الفقر والبطالة والجوع، وبالتالي، تظل المعضلة السكانية بغير حل.
إذن، كيف يمكن النظر إلى المشكلة السكانية، وإعادة تعريفها من منظور التنمية، والقيمة النوعية المضافة؟ كيف يمكن النظر إليها من مفهوم إنساني؟ هكذا تستبيح المالتوسية الجديدة، ببربريتها وعدائها البشر، عمليات التجويع والقتل الجماعي لسكان العالم المتخلف، ويركن أهل الاستبداد والفساد في السلطة إلى إحياء خطابٍ مالتوسي، لتغطي به بعضًا من فشلها الذريع في الإنجاز وتدبير معاش الناس، إنما تعبر عن زحف الاستبداد والفساد على كل قيمة إنسانيةٍ وعناصر تكريم الإنسان.
إنه مثل مالتوس، لا يزال ينظر إلى السكان وزيادتهم بأنها العبء الأكبر الذي يجب أن يتخلص منه بالحروب وغيرها. ما لهؤلاء لا يرون في الإنسان المكرم إلا عبئاً ومغرماً؟ لماذا يتحدث هؤلاء حتى يخفوا فشلهم عن شماعة زيادة الناس وزيادة السكان، ولا يعتبرون ذلك طاقةً محتملةً، يتم استثمارها في بناء الإنسان وتشييد العمران، ولكن إدراكاتهم العليلة تقف عند حد أن هؤلاء ليسوا إلا عبئاً؟. 
وفي هذا المقام أيضاً، سنرى المشاهد التي تستخفّ بكل روح إنسانية تقتل وتعذب، وتصفي جسدياً وتختطف قسرياً، تفعل كل أمر يروّع النفوس، ويقومون بكل ما يؤدي إلى التخلص منها، والتعامل معها بكل استخفاف. حتى هؤلاء ينظرون إلى بعض أهل هذا الوطن على أنهم عبء لا يستحقون إلا القتل والتقتيل، وإلا المطاردة والتعذيب. لا يقيمون للإنسانية وزناً، ويقومون بذلك كله تحت عناوين فرض الأمن والأمان، لكنهم، في الحقيقة، يتطاولون على النفس الإنسانية من غير جريرةٍ أو قصاص، ويستهينون بكل نفس، فليس للإنسان عندهم أي وزن أو ميزان.
هكذا، تمارس النظم المستبدة ظلمها، وظلمها خراب للعمران والناس، والإنسان مادة العمران،
لكنهم يرون في كل هؤلاء عبئاً، ومن ثم لا يهتمون بهم، ولا بحياتهم، ولا بهجرتهم، ولا بمعاشهم، ولا بإنقاذهم، ولا حتى انتشال جثامينهم. لماذا يفعل المستبد ذلك؟ يفعله، لأنه هو أكبر تاجر موت، يقتل ويستبيح الدماء، يفقر الناس، ويقوم بالجباية منهم من كل طريق، حتى لو عدموا المعاش، وكانوا من المعدمين. في عرف المستبد، تعدّدت أحوال الإعدام والموت واحد، إنه المصير الذي يلقى تلك الجموع، وهو لا يهتم بأي أمر سوى بالمتاجرة والمكابرة.
من هنا، سنرى كبيرهم "المنقلب" يتحدّث في قمة الجمعية العامة حول اللاجئين والهجرة الشرعية، ويحاول أن يضع نفسه بحامي الحمى، وأنه يمنع كثيرين من الهجرة إلى بلاد الغرب. وبعد خطبته تلك، حدثت الحادثة، وباغتت نظامه البائس الفاجر. وخرجت البيانات لا تخاطب عموم الناس، ولا تعزّي في أرواحهم، لكنهم فقط أخرجوا البيانات، ليؤكدوا أن القوات المسلحة لا زالت تقوم بأدوارها في مكافحة الهجرة غير الشرعية، حتى لو مات هؤلاء، وقضوا في عرض البحر، يقومون بذلك كله، من دون أدنى إحساس بالإنسان أو الإنسانية.
يدلّ ذلك كله على نظم استبداد فاجرة، حتى يبقى كل منهم على كرسيه، وعلى سلطانه واستبداده وطغيانه، فليذهب الجميع إلى الجحيم، فهذا يقتل شعبه ببراميله المتفجرة، ويأتي بدول خارجية، لتقصف شعبه بقنابل فسفورية، ومن يفلت من القذائف، إنما يموت بالحصار والتجويع. وهذا مستبد آخر يلوح لشعبه ويهدّده بسلاح جيشه، إذا ما احتج أو ثار. الجيش لهم بالمرصاد ينتشر في عموم البلاد في ساعات ست. وعلى حد قوله، لن يترك البلد تضيع أو يضيع الناس.
أسألكم بالله.. هل ما يفعله هذا وذاك سوى تضييع للناس والعباد والبلاد، وتقتيل للأنفس واستباحة الأرواح؟ هل ذلك كله ليس إلا تضييعاً وتقتيلاً وتخريباً لكل عمران؟ ما لهؤلاء لا يقومون بأي شأن، إلا بتأمين نهبهم وفسادهم وشبكات استبدادهم. يا سادة، إنها عصابات تحكمنا وتتحكّم بنا. هم مصاصو دماء، وجباة أموال وعصابات مسلحة، وسفاحون قتلة، ثم يتحدّثون بعد ذلك أنهم لا يريدون أن تضيع البلاد.
تقول سفينة رشيد، من كان عليها ومن كان من أهلهم ومن بني وطنهم.. "وما كان أمر فرعون برشيد".

دلالات
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".