جمال عبد الناصر في بيوتنا

30 سبتمبر 2016

سوريون يحتشدون لسماع عبد الناصر في 1960 (Getty)

+ الخط -
كان لدينا، نحن الفلسطينيين، أكثر من سبب لنُحبّ جمال عبد الناصر، غير أنه كان نصيراً لقضيتنا، وقاتل من أجلها، وجرح في حرب فلسطين عام 1948. كنا نفتقد الزعيم الذي يحكي باسم قضيتنا، ونحن هائمون في سنوات اللجوء الأولى، ولم يكن لدينا زعيم ولا حركات ولا أحزاب. كنا لاجئين مرميين في مخيمات اللجوء والحرمان والشقاء والضعف، بلا قوة أو سند. وكان عبد الناصر ذلك الزعيم الذي علقنا صوره على أعمدة الخيم، ثم على حيطان البيوت التي أقامتها وكالة الغوث، بديلاً من الخيم التي لا تصلح لإقامتنا الطويلة التي ستمتد أكثر من ستة عقود. في بيتنا في المخيم، كانت توجد صورة معلقة في غرفة الجلوس تمثل عبد الناصر، وقد عُلِقت حول رقبته خريطة فلسطين مكتوب عليها "هذه هي أمانتك ونحن فداك يا جمال".
في تلك السنوات المبكرة من الطفولة ومن اللجوء، لم نكن نكترث للتحليلات السياسية والأيديولوجية التي بدأنا نسمع بها لاحقاً عن مساوئ الانقلابات العسكرية وسلطة العسكر، ولا كنا نبالي بكراهية القوميين السوريين والبعثيين في المخيم عبد الناصر، لأسباب مجهولة لدينا، حتى أننا صرنا نكرههم، ونحن لا ندرك أن كراهيتنا لهم هي ما يسمى الخلاف السياسي، وصار الكبار ينسجون حول هؤلاء قصصاً تلقفناها، نحن الصغار، لنعزز كلّ يوم محبتنا عبد الناصر الذي وضعنا فلسطين أمانةً في رقبته، وصرنا نرى صورته في القمر، كلما اكتملت دورته بدراً.
عندما نشأت حركة القوميين العرب، مع منتهى الخمسينات، وجدنا في محبتها عبد الناصر وارتباطها بسياسته متنفساً لنا، وتأكيداً على صحة مشاعر الحب تجاهه. وعندما اختلفت هذه الحركة معه، بعد أن بدأت تحاول الاستقلال عن الركب الناصري، وهي تؤسس للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، لم نفهم سرّ هذا الشرخ بينهما. قلنا ربما هي هزيمة عبد الناصر في حرب يونيو/ حزيران 1967، وبداية تشكل وعيّ سياسي جديد لدى الفلسطينيين، والخيبة الكبرى التي أصابتنا جرّاء تلك الهزيمة التي قضت على ما تبقى من فلسطين، وعلى ما كان في قلوبنا من أمل في تحريرها، لكننا لم نكره عبد الناصر، حتى عندما صرنا نلتقي يساريين مصريين، جاءوا إلى لبنان، داعمين الثورة الفلسطينية. وراحوا يحدّثونا عن رأسمالية الدولة التي أنشأها عبد الناصر، بعد قضائه على الإقطاع وتوزيع الأراضي على الفلاحين المصريين المعدمين، وعن دولة المخابرات الصارمة التي بناها، لتحمي نظامه الديكتاتوري، وطموحاته في السيطرة على العالم العربي، عبر فكرة القومية العربية التالفة، والتفريط باقتصاد مصر وشبابها في حرب اليمن، في سياق ذلك المشروع التوسعي.
لم نستطع أن نكره عبد الناصر، حتى، ونحن نستمع لكل هذا الكلام، فقد كانت قلوبنا من الهشاشة التي لا تترك منفذاً لكراهيته، ولا رفضه، إذ كنا دائماً نحس أنه يشبهنا، فقد كانت تصل إلينا حكايات أسرته الفقيرة، وعيشه المتقشف وهو رئيس الدولة الأكبر في العالم العربي، وحبه أم كلثوم وأغانيها، وعشق عبد الحليم حافظ له، وأغانيه التي كنا نحفظها ونردّدها، كلما أحسسنا في أعماقنا أسى هزيمته في الحرب التي كنا نعرف أنها هزيمتنا، نحن أيضاً، حتى ولو لم نخضها معه ومثله بكامل المسؤولية. وكيف لنا أن لا نحبه، وهو المهزوم. حاول أن ينقذنا من الهزيمة، فهو الذي سعى عام 1969، وتوصل إلى إقناع الدولة اللبنانية بإتفاقية القاهرة التي حرّرت مخيماتنا من سلطة المكتب الثاني اللبناني الرهيبة، ومن مخافر الدرك التي تحكّمت برقابنا، وهو الذي لم ينم ثلاث ليالٍ متواصلة، قبل ليلة موته في الثامن والعشرين من سبتمبر/ أيلول 1970، في محاولةٍ لوقف نزف دمنا المراق في الأردن.
ونحن نتذكّره اليوم، نتذكّر الأسى، أسى هزائمه التي أودت به وبنا والخيبة، خيبته وخيبتنا، في هذا الحب المضرّج بدم الهزائم واليأس.
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.