ثورة ضد انقلاب

20 يوليو 2016

حشد في ساحة تقسيم في اسطنبول ضد الانقلاب (18يوليو/2016/Getty)

+ الخط -
يقول الإنكليز، إن صورة واحدةً أبلغ من ألف كلمة. هذا ما رآه العالم، ليلة الجمعة، مشاهد حية من شوارع إسطنبول وأنقرة وأزمير وغازي عنتاب. شعب أعزل نزل إلى الشارع، ليقول للانقلاب العسكري لا. شاب عاري الصدر يقف أمام دبابةٍ يمنعها من الحركة، ومعها منع السلاح من اغتصاب السلطة، والرصاص من انتهاك حرمة الاقتراع، والخوذة من اغتصاب الشرعية.
حسم الشعب التركي المعركة في ساعات، ووضع نهايةً سعيدة لفيلمٍ مرعب. اعتقل جنود الانقلاب من وسط مدرعاتهم وثكناتهم، وخرج الزعيم التركي أردوغان معلناً أن تركيا مدنية وستبقى مدنية، وأن الانقلابيين سيحاكمون، وأن حملة تطهير شاملة ستنطلق، للقضاء على الكيان الموازي الذي يديره فتح الله غولن من منزله في أميركا.
أعطيت تفسيراتٌ عدة لفشل الانقلاب، لأن المنتصرين عادة من يكتبون التاريخ، لكن السبب الرئيسي كان هو الشعب، الكلمة السحرية التي تستعمل كثيراً، ولا تظهر إلا قليلاً، تحولت من مجازٍ إلى حقيقة ليلة الجمعة. أبدى المواطن التركي شجاعةً استثنائية، وهو يدافع عن الخيار المدني، ويرفض العودة إلى زمن حكم العسكر الذي جرّبه سنواتٍ، ولم يجنِ منه إلا المآسي. بعد أربع ولايات انتخابيةٍ نظيفة، نضج الشعب التركي، ولن يرجع إلى الوراء، ولن يقبل ما قبله الشعب المصري الذي أرعبه بطش الجنرال عبد الفتاح السيسي، ودفعه إلى قبول الأمر الواقع. وها هو يدفع ثمناً غالياً من حريته وكرامته وسمعته.
السبب الثاني الذي أفشل الانقلاب العسكري عجز الانقلابيين عن توفير أي غطاء سياسي لجريمتهم. الأحزاب الممثلة في البرلمان، بما فيها الحزب الكردي الذي يكره أردوغان، وقفت ضد الانقلاب. وضعت خلافاتها جانباً، ووقفت ضد مسّ شرذمة من الجيش بالشرعية الديمقراطية. لم تفعل النخب العلمانية التركية ما فعلته النخب العلمانية العربية التي دفعها فقر الديمقراطية في دمها إلى التحالف مع الاستبداد، والانقلاب ضد حكم الإسلاميين المنتخبين. اليسار واليمين والأكراد مختلفون مع أردوغان في كل سياساته، لكنهم ليسوا مختلفين معه حول طبيعة الحكم المدني، وحق الشعب في اختيار من يحكم. العلمانيون في جل بقاع العالم ديمقراطيون إلا في العالم العربي، فهم مستبدّون يكرهون صندوق الاقتراع، ويقبلون العيش في كنف السلطوية.
السبب الثالث، التعدّدية الإعلامية، وتطور وسائل الاتصال الحديثة التي لم يستطع الانقلابيون السيطرة عليها، كما في السابق، حيث كان يكفي دخول العسكر إلى الإذاعة والتلفزة الرسمية، وتلاوة البيان الأول ليفرضوا سطوتهم على التوجيه الإعلامي للجمهور. ليلة الجمعة، واجه الانقلابيون 400 تلفزة تركية، وملايين المنخرطين في شبكات "فيسبوك" و"تويتر" و"أنستغرام" الذين تفاعلوا مع الأحداث بعفويةٍ وحريةٍ، ومن دون رقابة. وكان لافتاً أن دعوة أردوغان الجمهور للخروج إلى الشارع كانت بالهاتف الذكي لشركة آبل، فقد استعمل من مكان اختبائه تقنية "فايس تايم" ليحرّض الأتراك على الثورة ضد الانقلاب، والخروج إلى الشارع واعتقال المتمردين. كسرت تكنولوجيا الإعلام والاتصال الحديثة احتكار الأخبار، وجعلت من المواطنين منتجين ومستهلكين للأخبار.
السبب الرابع، ولاء مؤسستي الأمن والمخابرات للحكومة. اتضح أن المجهودات الإصلاحية التي قامت بها حكومة أردوغان طوال 14 عاماً، أفلحت في إعادة هيكلة المؤسسة الأمنية، وجعلها في خدمة البلاد، وليس في خدمة أشخاصٍ أو لوبياتٍ أو مخططاتٍ داخلية أو خارجية. لعبت قوات الأمن والمخابرات دوراً كبيراً في اعتقال الانقلابيين، بعد أن شلت الجماهير حركتهم في الشارع، ومنعت تحركّهم نحو مؤسسات الدولة الحيوية. وكان في مقدور قيادات الأمن والمخابرات أن تقف على الحياد، أو أن تنضمّ إلى الانقلابيين، حتى تضمن لها موقعاً مريحاً في ترتيبات ما بعد الانقلاب، لكن هذه الأجهزة الحسّاسة اختارت الدفاع عن الديمقراطية والشرعية والحكم المدني، وجعلت الشعب التركي يرفع رأسه أمام العالم في دولةٍ تنتمي إلى العصر وقيمه الحديثة.
سيخرج أردوغان وحزبه أقوى، وستسجل تركيا في قائمة البلدان التي عبرت امتحان الانتقال الديمقراطي بنجاح. على أردوغان أن يمنع نفسه من الانتقام، ومن توسيع رقعة المتابعات والملاحقات خارج القانون وخارج دولة المؤسسات.
A0A366A1-882C-4079-9BED-8224F52CAE91
توفيق بوعشرين

كاتب وصحفي مغربي، رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم" المغربية.