الدبلوماسية المغربية... تحوّل جوهري يعيد ترتيب الأولويات والرهانات

18 يوليو 2016

محمد السادس ورئيس الصين في بكين (11 مايو/ 2016/أ.ف.ب)

+ الخط -
ساير المغرب نسائم رياح الربيع العربي التي بلَغته في 20 فبراير/ شباط 2011، بإقرار حزمة إصلاحات عميقة وبنيوية، حقق بفضلها التّميُز في سياق إقليمي مضطرب. ما أهَّله دولياً لنيل صفة دولة نموذجية، تنجح في القيام بـ "ثورة داخلية هادئة"، ومكّنه داخلياً من رفع منسوب الإجماع الوطني حول المسار العام للإصلاح وتوحيد الجبهة الداخلية.
وازداد عنده اليقين في الآن نفسه، بعد مواقف القوى الكبرى حيال الثورات العربية، من أن زمن الرهان على الخارج، والاستقواء به، ولَّى إلى غير رجعة. إذ أضحت لغة المصالح القائمة المعيار الأساسي لتقييم أي قرار تتخذه العواصم العالمية في الوقت الراهن. مُضافة إلى هذه المتغيرات الفوضى في الاصطفاف والمواقف التي تتخبّط فيها الدول الكبرى تجاه ما يجري في المناطق الساخنة في العالم، وفي مقدمتها بؤرة التوتر الأولى، وهي بلدان الإقليم العربي.
ضمن هذا السياق المعقد، وجد المغرب نفسه ملزماً بإعادة النظر في سياسته الخارجية، وموقعه في الساحة الدولية، من خلال ترتيب أولوياته الدبلوماسية. بعد أن كانت الاستراتيجية الكبرى للبلد طوال عقد (1999-2010) قائمة على الاهتمام بالشأن الداخلي (مشاريع، أوراش، استراتيجيات، مبادرات...).
نقطة تحول جوهرية في الدبلوماسية المغربية، كان لها تداعيات كبرى في مواجهة حلفاء المغرب التقليديين، ممن يريدون له البقاء أسير "الدبلوماسية السرية"، ويرفضون اعتماده أسلوب "المواجهة المكشوفة" التي ستفقدهم واحدةً من مكتسبات زمن الاستعمار، وهي حق النطق باسمه وبالنيابة عنه. وأبرز دليل على ذلك تلك التصريحات المستفزة لممثل فرنسا الدائم لدى الأمم المتحدة، جيرار آرو، الذي وصف المغرب بأنه "عشيقة ننام كل ليلة معها، من دون أن نكون مولعين بها حقاً. لكن، يجب الدفاع عنها".


تصعيد دبلوماسي
فضح الربيع العربي تلك البقية الباقية مما كشفته الأزمة المالية العالمية لسنة 2008؛ من انتهازية الغرب وبراغماتية دوله في مواقفها وقراراتها تجاه العالم العربي وقضاياه. ما فرَض على المغرب نهج استراتيجيةٍ بديلةٍ، تسمح له بالانسلال من تحت عباءة محور بروكسيل باريس مدريد واشنطن تدريجياً، عبر تنويع شركائه الاقتصاديين، وانفتاحه السياسي وجبهاته الاستراتيجية.
دشَّنت الرباط في مارس/ آذار 2013 تلك الخطة في العمق الافريقي؛ هذا الفضاء الجغرافي والاقتصادي والاجتماعي والبشري المترامي الأطراف، مستثمرةً العلاقات التاريخية والثقافية والدينية للبلاد مع تلك الدول (مالي، الكوت ديفوار، السنغال، غينيا، الغابون...) بغية إحياء البعد الأفريقي لعلاقات المغرب.
وكان المدخل الاقتصادي الباب العريض لذلك، بالاعتماد على الاستثمار المباشر، ونقل الخبرات والمعارف إلى تلك الدول، وفق قاعدة رابح- رابح في الاقتصاد، ولسان حال المغرب يردّد "إفريقيا لا تحتاج مساعدات، وإنما استثمارات ومشاريع اقتصادية"، متجاوزاً بذلك المنطق الاستعماري المهمين الذي ينظر إلى هذه الدول حديقةً خلفيةً له، يمنحها فُتات المساعدات في مقابل استنزاف ثرواته.
بهذه الخطوة إذن، يتجاوز المغرب دوره التقليدي المحدّد في مجرد "شرطي للحدود" بين أفريقيا وأوروبا، ليواجه دولاً كبرى وينافسها اقتصادياً في عمق أفريقيا؛ وفي مقدمتها فرنسا، حليفته التقليدية التي ما تزال تنتظر من الرباط أن تعطس كلما أصيبت باريس بنزلة برد.
جاء الجواب سريعاً وتباعاً على "الإبن العاق" من أكثر من عاصمة، كل حسب موقعها، وفي حدود قدرتها لتنبيه هذا المارد العربي المسلم الأفريقي، ونجمل تلك الردود اختصارا فيما يلي:
- أزمة دبلوماسية بين الرباط وباريس طوال سنة 2014، أفضت إلى إيقاف واجهات التعاون بين البلدين (قضائياً، أمنياً...) بسبب اتهام مدير الاستخبارات الداخلية المغربي بممارسة التعذيب، ثم حادثة الاعتداء اللفظي على شخصية عسكرية، تعالج في إحدى المصحات الفرنسية، وقبله واقعة التفتيش المهين لوزير الخارجية المغربي في مطار شارل دوغول.
- الأزمة بين الرباط وواشنطن في أبريل/ نيسان 2013، بعد اتجاه الخارجية الأميركية نحو تقديم مقترح لمجلس الأمن، بغية توسيع مهام بعثة المينورسو الموجودة في الصحراء لمراقبة أوضاع حقوق الإنسان.
- صيف 2015، اتجاه صناع القرار في ستوكهولم، وضداً على الحياد التاريخي المعروف عن دبلوماسية مملكة السويد، نحو الاعتراف الرسمي بـ "بوليساريو".
- أواخر عام 2015، قرار المحكمة الأوروبية توقيف سريان الاتفاق القائم بين المغرب والاتحاد الأوروبي، المتعلق بإجراءات التحرير المتبادل في مجال المنتجات الفلاحية والمحولة ومنتجات الصيد البحري، بعد تحرّك سياسي لجبهة بوليساريو، على أساس تنافي بعض بنود الاتفاق مع قوانين الاتحاد.
- مارس/ آذار 2016، زيارة الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، لمنطقة تندوف، وخرق قواعد عمل هيئة الأمم المتحدة ذات الطابع الحيادي، بتصريح مسَّ السيادة المغربية، حين وصف الوضع في الصحراء بـ "الاحتلال".
هكذا عاشت الدبلوماسية المغربية على إيقاع تغيراتٍ متواترةٍ في السنوات الأخيرة، وعبر مختلف الاتجاهات، قصد ردع المغرب وتحجيم تحركاته وثنيه عن استراتيجية عودة الرباط للدخول على خط تدبير مجموعة من الأزمات الإقليمية (مالي، ليبيا،...) كما كان حالها زمن الراحل، الملك الحسن الثاني.
بيد أن النتائج كانت عكس ذلك، فمن ناحيةٍ شرع المغرب فعلياً في ملء الفراغات التي ظلت خارج رادار دبلوماسيته، في بعض الأحواض الجغرافية (أميركا اللاتينية، أوروبا الشرقية...)، واستمر، من ناحية أخرى، في توجهه الجديد الرامي إلى تموقعه خارج معادلة الحلف الغربي التقليدي، وإنهاء العلاقات الاحتكارية لهذا الأخير على المغرب.

تموقع جديد وشراكات استراتيجية
لم تؤثر تلك المحاولات على الاستفاقة الدبلوماسية للمغرب التي استعانت لتحقيق أهدافها بكل الوسائل الممكنة والمتاحة (قنوات رسمية، دبلوماسية موازية، ضغط شعبي...)، آخذة بالاعتبار التحولات الدولية، والغموض في مواقف بعض الشركاء التقليديين حيال قضية وحدته الترابية التي أضحت ورقةً للابتزاز والمساومة. فما كان من المغرب إلا أن أعلن التمرّد بالبحث عن مؤيدين له خارج محور باريس -واشنطن، مذكّراً الغربيين بمقولة الجنرال الفرنسي، شارل ديغول، التاريخية، إبان الحرب العالمية الثانية، وهو لاجئ في بريطانيا، "فرنسا لا تعض أصدقاءها، لكنها حريصة على أن يعرف هؤلاء أن لها أسناناً.. وأسناناً حادّة أحيانا".
وهكذا ضربت الرباط في الأركان الأربعة للعالم، فبعد الزيارة النوعية لعاهل البلاد، محمد السادس، إلى الهند، نوفمبر/ تشرين الثاني 2015 التي طغى عليها الجانب الاقتصادي. جاءت روسيا ضمن قائمة الشركاء الجدد للمغرب؛ خصوصاً بعدما وجد الطرفان نفسيهما يواجهان مشروع عزلةٍ يُحاول الاتحاد الأوروبي فرضه في المجال الاقتصادي (خصوصا الزراعي والصيد البحري)، وذلك بتوقيع الطرفين أزيد من 15 اتفاقية اقتصادية وتجارية بين البلدين، وأربع اتفاقيات تهم الجانبين العسكري والأمني.
لعل أقوى مكسبٍ تعود به الدبلوماسية المغربية من موسكو بعد "بيان الشراكة الاستراتيجية المعمقة بين روسيا الفيدرالية والمملكة المغربية" قدرتها على استمالة صنّاع القرار في الكرملين لصالح دعم قضية الوحدة الترابية للمغرب، أو على الأقل ضمان الحياد الإيجابي لروسيا، بدعم حل سياسي متوافق عليه بين الأطراف، برعاية أممية.

العملاق الصيني الموجودة بقوة في بعض الدول الأفريقية، حاضر في أجندة الاستراتيجية الجديدة للمغرب التي ترتكز على تعدّدية قطبية اقتصادياً وتجارياً. أما دبلوماسياً، فلا يمكن لصناع القرار في الرباط أن ينكروا الموقف الإيجابي لبكين في جلسة التصويت، أخيراً، بشأن قضية الصحراء في الأمم المتحدة، حين رفضت أية مغامرة من شأنها أن تؤدي إلى زعزعة استقرار المغرب. هذا ولم تتردّد الصين، قبل ذلك، في إبعاد جبهة البوليساريو عن حضور أشغال القمة الثانية "إفريقيا – الصين"، نهاية السنة الماضية في جنوب إفريقيا.
نقطة أخرى من جنوب شرق آسيا، تحسب لصالح لدبلوماسية الرباط، فالمؤكد أن التنين الصيني لا يرى العالم إلا بنظاراتٍ اقتصادية، نظراً لوزنه على المستوى العالمي، غير أن ذلك لا ينفي مكانته دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن، ومفاوضاً شرساً على الساحة الدولية، يمكن للمغرب الاعتماد عليه، لمواجهة تحديات التنمية الاقتصادية، وكذا دعمه في الدفاع عن مصالحه الوطنية الاستراتيجية.

تكتل خليجي لتعضيد الصف العربي
أدركت الرباط أن قضية الصحراء أضحت، في الآونة الأخيرة، أداة ابتزاز لها، وورقة يهدف اللاعبون بها إلى زعزعة الاستقرار والاستثناء المغربي في شمال القارة الأفريقية. بصيغة أخرى، أصحب الملف مجرد غطاء، الغاية منه إيقاف نموذج الإصلاح، في ظل الاستقرار الذي تسير البلاد على هديه منذ بداية الربيع العربي. وهذا مخطط لو نجح فستكون له تبعات كارثة على المنطقة برمتها، أقلها إسقاط الأنظمة الملكية من لائحة الاستثناء.
وأدركت دول الخليج، وفي مقدمتها السعودية، أنها أضحت محط ابتزاز أميركي، تارة بدعوتها إلى اقتسام النفوذ في المنطقة العربية مع إيران، وتارة أخرى بفزّاعة المسؤولية غير المباشرة عن أحداث 11 سبتمر/ أيلول 2001. فما كان من الملك محمد السادس، وبحركة دبلوماسية ذكية، إلا أن يختار الرياض ليصعّد لهجته، وبكلمات واضحة وصريحة لحلفائه القدامى، حين قال في خطابه في القمة المغربية الخليجية في 20 أبريل/ نيسان 2016، إن: "المغرب حرّ في قراراته واختياراته، وليس محمية تابعة لأحد".
وبذلك، تعلن الرباط للمستفزين لها حساسية جرح الصحراء الذي تحملت تكلفته طوال 40 سنة، وتعترض عن قبول أية مساومةٍ في القضية الأولى للمغاربة. وفي الآن نفسه، رفضها اعتبار تلك الأزمات المتوالية منذ ثلاث سنوات مجرد مصادفة، مؤكدة عدم قبولها قصاصة "زلة لسان" الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، حين وصف الوجود المغربي في الصحراء احتلالاً، ورافضة تصديق أن كريستوفر روس وجيفري فيلتمان مجرد موظفين عاديين لدى الأمم المتحدة؛ لا يأتمران بأوامر واشنطن وباريس في عملهما إلى جانب كي مون. وتعلن الرباط في مقابل ذلك للخليجيين عن استعداد المغرب الكبير لشراكة استراتيجية معهم، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وأمنيا، وأن كل المحاولات لن تمنع المغرب من المضي في طريق التخلص من التبعية الكلية لأصدقائه السابقين؛ بالتأكيد على أنه بلد مستقل في قراره، وأنه انتهج استراتيجيةً جديدةً في علاقاته بالقوى الكبرى، بحثاً عن موقع جديد في عالم متعدد الأقطاب.



E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
محمد طيفوري

كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.

محمد طيفوري