في يوم الأرض المصري

25 ابريل 2016
+ الخط -
كسر المصريون جدار الصمت، وانفجروا. عادت روح ثورة يناير إلى الميادين، لم يكن قرار الرئيس عبد الفتاح السيسي التنازل عن جزيرتين للسعودية سوى النقطة التي جعلت الكأس يفيض. اختصر القرار أزمة النظام الشاملة، فخرج المتظاهرون ضد النظام، ليعلنوا رفضهم طريقة الحكم السلطوية التي توظف المؤسسات لخدمة الحاكم الفرد، كما أعلنوا نقمتهم على السياسة الخارجية لمصر التي تكرّس عصور التبعية وهيمنة الخارج على متخذ القرار، ولم يستبعد المتظاهرون السياسات الاقتصادية التي تدفع النظام إلى التهاون في الأرض وبيع الأصول المملوكة للشعب، وهي نفسها السياسة التي تحابي المستثمرين، وتضغط على الفقراء بسياسات التقشف، وتزيد حياتهم مشقة.
حين تلجأ دولة إلى إعادة ترسيم حدود مع دولةٍ من دول الجوار، يسبق ذلك تفاوض ومحادثات، وربما تحكيم دولي، يستند إلى حقائق التاريخ والجغرافيا والثقافة، ويأخذ في الحسبان اعتبارات الأمن القومي والمصالح الوطنية. لا يحب شعب مصر ذو التاريخ العريق أن ينازع أحداً، أو يدخل في خلافاتٍ تشق الصف العربي، وكذلك لم يدخل حرباً طيلة مائة عام سوى مع إسرائيل، دفاعا عن أرضه وعن وطنه، وكانت الجزيرتان إحدى ساحات الحرب مع العدو الإسرائيلي، هذا العدو الذي دفع المصريين في مواجهته ضريبة ثلاث حروب من الشهداء.
لا يريد المصريون الشقاق، أو مهاجمة أي شعب عربي، لكنهم لا يريدون، في الوقت نفسه، التفريط فى الأرض أو المهانة والمذله والتبعية فى قراراهم لأحد. ومن هنا، رفع العشرة آلاف متظاهر شعارات "عيش.. حرية.. الجزر مصرية، الحرية لكل سجين.. الحرية للمصريين، الشعب يريد إسقاط النظام"، وغيرها من الشعارات ضد سياسات السلطة الاقتصادية، وضد قمع الحريات وضد حكم العسكر.
تعدّدت أسباب الغضب، وانفجر المصريون، شعروا بالمهانة والذل، والسلطة التي تحكمهم تبيع الأرض مقابل المال، والأزمة الاقتصادية ترهن كرامتهم، خصوصاً أن ما أحاط بزيارة الملك سلمان من تهليل وترحيب أوحى بهذا الشعور، كما أنها المرة الأولى في التاريخ يكافح مؤيدو سلطة لإثبات أن جزءاً من أراضيهم ليست لهم.

وفوجئ المصريون بقرار ترسيم الحدود، بينما يلزم الدستور رئيس الدولة بألا يبرم الاتفاقيات إلا باستفتاء شعبي، وموافقة مجلس النواب، بينما يرى آخرون أن قراراً كهذا لا يصلح معه استفتاء، لسببين: أولاً، أن لا أحد من حقه الاستفتاء على البيع، أو التنازل عن جزءٍ من الوطن. ثانياً، هذه السلطة التي تحكم بآليات الاستبداد لن يستعصي عليها لا التزوير بشكل مباشر، أو غير مباشر.
لم يتشاور عبد الفتاح مع أحد كعادته. إنه يلعب دور الحاكم الفرد، ولا يسمح، حين يلتقي مؤيديه، أن يتحدث أحدهم من دون إذن. ليس القرار الأول الذي يعرفه الشعب من الصحف، على الرغم من أن السيسي، حسب ما أعلنت وسائل إعلام أجنبية، لم يتخذ القرار، إلا بالتشاور مع أميركا وإسرائيل، لكن التشاور لم يعرف طريقة إلى الشعب المصري.
رأى السيسي، في خطابه الذي سبق خروج المظاهرات، أن النقاش في الفضاء الإلكتروني حول القضية ينتمي إلى حروب الجيل الرابع، وأعطى أوامره بأن يصمت المصريون، ويقبلوا الصفقة، ويغلق الموضوع. لكن، لم يلق الخطاب استجابةً، فزمن التفويض ولّى، ولغة الأبوية المغلّفة بالتهديد لم تعد تخيف، وحتى التهديدات بالحبس ثلاث سنوات طبقا لقانون التظاهر لم تمنع خروج المظاهرات، ولم تؤثر شهادات أولي العلم من وزراء الديكتاتور حسني مبارك في منع خروج المظاهرات، لأن الغضب ليس من قرار إعادة ترسيم الحدود وحسب، بل خرج المتظاهرون ضد النظام، وهتفوا ضد كل سياسات النظام.
كسر يوم الاحتجاج كبرياء النظام وعجرفته وشعبيته الهشة التي يدّعيها، كل من نزل للتظاهر يعرف أنه معرّض للاحتجاز والتعذيب، وربما السجن ثلاث سنوات بتهمة التظاهر. وقد احتجزت قوات الأمن مائة من الشباب المتظاهر، أفرج عن أغلبهم، وحبس 25 منهم 15 يوماً على ذمة التحقيقات، كما شهد اليوم الاحتجاجي اعتداءاتٍ من قوات الشرطة على المتظاهرين، على الرغم من أنهم أعلنوا انتهاء التظاهرة، والعودة إلى التظاهر اليوم (25 إبريل)، والذي يصادف عيد تحرير سيناء، وأطلق عليه يوم الأرض المصري، أسوة بيوم الأرض الفلسطيني.
لم يسمع أولاد الأرض وبناتها، من شابات وشبان مصريين، كلام السيسي، حين طالبهم بالسكوت، معلنين: ليس الصمت لنا، وربما لا يفهم السيسي، وغيره من جنرالات تربوا في عصر مبارك، أن هذا الجيل، بجانب اختلافه وتنوعه وقدراته ورغبته في مستقبل مغاير، تفتحت عيون الصغار منه على تفجر الثورات العربية، وأن من سبقهم تفتحت عيونهم على تفجر الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وشارك في التحركات المساندة لها، وأنه جيل لا يقبل الهزيمة، وليست لديه رفاهية أن يستسلم ويرضى بالموت. لذا، ستلقى التصريحات الصحافية المنسوبة للسيسي بشأن قراره منع تمدد المظاهرات مصير تصريحاته هو شخصياً، حين طالب المصريين بالصمت.
ستمثل مظاهرات اليوم نقطة تصعيد ضد النظام، فالغضب انفجر وكل يوم يزداد، لن توقف أوامر بوليسية بحصار الميادين تعبير الشعب عن رفضه النظام، ولن يخيف احتجاز 25 شاباً، بتهمة التظاهر، أن يتظاهر ضد النظام 25 ألف شاب. ولن يمنع الاعتداء الذي واجهته عدد من النساء في أن تخرج الفتيات يهتفن، مرة أخرى، مطالبات بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
لن تخيف عصا النظام أولاد الشعب وبناته اليوم في تظاهرات الأرض، فقد عرفوها من قبل تفجر الثورة، وعلى الرغم من ذلك، صنعوا الثورة. المخرجة رانيا رفعت من اللواتي تعرّضن في المظاهرة، أخيراً، لاعتداء عنيف متكرّر في مدرعتين وعربة للأمن المركزي. وهي أيضاً واحدة من بنات الشعب اللواتي دعمن الانتفاضة الفلسطينية، بالمشاركة في أنشطة اللجنة الشعبية لمساندة الشعب الفلسطيني، وهي واحدة من المصريات اللواتي خضن معركة التغيير ضد مبارك. واستمرّت، بعد الثورة، في خندقها، ولم تغيّر موقفها، فنزلت تواجه النظام. أغلب الظن أن رانيا وبنات الأرض وأولادها سيستمرون في معركتهم، حتى يحققوا النصر، ويتغير النظام، حتى ولو طالت المعركة. فاثبتوا وتملكوا الأمل، يا بنات الأرض وأولادها.

D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".