تواطؤ أوروبي في أحداث بروكسل وباريس؟

02 ابريل 2016
+ الخط -
في تحقيق استقصائي محكم، قدمت صحيفة الغارديان البريطانية تحليلاً معمقاً عن دور الحكومات الأوروبية في تصدير المتطرفين إلى سورية، بالاستناد إلى توثيق حالاتٍ كثيرة لسماح الحكومات الأوروبية، ممثلة بأجهزتها الأمنية أساساً، بسفر آلاف من مواطنيها العاقدين على التوجه للمساهمة في الحرب في سورية، بجوازات سفر مطلوب إحضار أصحابها بناءً على سجلات الشرطة الدولية (الإنتربول)، أو وصول أصحابها من المطارات الأوروبية، بحقائبهم الشخصية التي تحتوي أسلحة وذخائر، أو في بعض الحالات إخلاء سبيل أولئك، بعد ترحيلهم من تركيا إلى البلد الذي قدموا منه، بتجاهلٍ مطلق لتعليلات الهيئات القضائية والشرطية التركية، لأسباب ترحيلهم المتعلق أساساً بكونهم مقاتلين أجانب في سياق الحرب الدائرة في سورية. أو حتى سماح الدول الأوربية التي يحملون جنسياتها لهم بالاستحصال على جوازات سفر جديدة، غير تلك المسجلة على لائحة الشرطة الدولية، والوكالات الشرطية التركية، ليتمكنوا باستخدامها من الدخول إلى تركيا مجدداً، بعد ترحيلهم أول مرة، والعبور منها إلى سورية، حتى وصل عددهم، بحسب مصادر صحيفة ذا غارديان البريطانية، إلى حوالي 31000 مقاتل أجنبي، معظمهم من دول الاتحاد الأوروبي.
ويورد التقرير الاستقصائي أمثلةً متعددةً عن تواطؤ الأجهزة الأمنية الغربية في دولٍ تمثل معظم أعضاء الاتحاد الأوروبي. وقد يكون المثالان الأكثر أهمية قصتي إبراهيم البكراوي وعمر إسماعيل مصطفى؛ فالأول أحد المسؤولين عن تفجيرات مطار بروكسل، أخيراً، وقد تمّ اعتقاله في يونيو/ حزيران في العام 2015 في غازي عنتاب في تركيا، لكونه مقاتلاً أجنبياً متوجهاً للحرب في تركيا، وعرضت السلطات التركية آنذاك ترحيله إلى البلد الذي يحمل جنسيته، أي بلجيكا، التي اعتقدت بعدم وجود أساس لذلك الادعاء، ورفضت طلب ترحيله إليها، فاضطرت الحكومة التركية لترحيله إلى هولندا بدلاً من بلجيكا التي عاد إليها لاحقاً، من دون أن تكترث الحكومة البلجيكية بالتحقيق في ما قدمته السلطات التركية عن ذلك الشخص، وأسباب ذهابه إلى تركيا. و الثاني، عمر إسماعيل مصطفى، حذّرت السلطات التركية من ارتباط اسمه بخلية من المواطنين الفرنسيين من أصولٍ مغاربية تشتغل بالتنسيق مع المتطرفين الإسلاميين في سورية بين العامين 2014 و2015، وهو ما لم تُعره السلطات الفرنسية أي اهتمام، حتى انقلب المذكور، ليكون أحد عناصر المجموعة الداعشية التي اقتحمت دار باتاكلان للموسيقى في باريس، في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
خلاصة رأي الأتراك، وخلاصة التحقيق الصحافي، أنّ الحكومات الأوروبية أرادت التخلص من المتطرفين الإسلاميين في بلدانهم، بتسهيل خروجهم إلى المحرقة السورية، للتخلص منهم نهائياً، بدل الاضطرار إلى زجّهم في سجونها، وهي السياسة المضمرة التي تمّ توطيدها واقعياً، بامتناع الأوروبيين منذ 2012 عن تقديم أي قوائم فعلية للسلطات التركية بأسماء من يُشك بارتباطاته بأنشطةٍ متطرفةٍ من مواطنيها، لأجل منعهم من دخول الأراضي التركية، وبالتالي، الحيلولة دون وصولهم إلى سورية. وهو ما يعني فعلياً أن كل التطبيل الإعلامي الأوروبي والأميركي عن تقصير الأتراك في منع تدفق المقاتلين الأجانب عبر حدودها إلى سورية سياسة ممنهجة لذرّ الرماد في العيون، وإشاحة البصر عن حقيقة السياسة الأوروبية المتعمدة في تسهيل عبور مواطنيها إلى المحرقة السورية.
ولكن التدقيق المتمعن في الخلاصة الآنفة الذكر يومئ إلى أنها جزء من الحقيقة فقط، ولا تمثل الصورة الكلية لأهداف الأوروبيين من تخليق تلك الجلجلة، بغض النظر عن أي أضرارٍ جانبيةٍ، لا بد من مكابدتها وفق القاموس السياسي الغربي الذرائعي حتى نقي العظم، من قبيل تراجيديا باريس في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، ومأساة بروكسل، اخيراً، لتحقيق الأهداف الأكثر جوهريةً من تلك المنهجية السياسية والأمنية.
التقط الساسة الأوروبيون المزاج العام الذي تشكل عقب أحداث "11 سبتمبر" في العام
2001 في الولايات المتحدة، والذي أفصح عن نفسه في تنازلٍ جمعيٍّ لكل مكونات المجتمع الأميركي عن كل أساسيات العقد الاجتماعي المتمثلة في سيادة القانون، والمسؤولية القانونية للسلطة التنفيذية تجاه التشريعية والقضائية، من خلال تقديم تفويض مطلق الصلاحية لحكومة جورج بوش الابن، في تغوّل أدواتها التنفيذية على كل حيوات مواطنيها المسلمين، داخل الولايات المتحدة، وهياجها الهوسي المنفلت من كل عقال على المستوى العالمي، متمثلاً بغزو أفغانستان، وتهشيم العراق، وهو المزاج الذي يراود ساسة أوروبيين كثيرين امتطاء صهوته في بلدانهم، مع معرفتهم المسبقة بصعوبة ذلك، لرسوخ المعايير الديمقراطية، وصلابة قوى المجتمع المدني في أوروبا، بما يتجاوز تلك الموجودة في الولايات المتحدة لعوامل تاريخية معقدة، تتعلق بتاريخ نشوء الديمقراطيات الأوروبية ومفاعيل الحربين العالميتين على أرض قارتها. فجاءت أحداث باريس، لتمكّن إدارة الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، من تحقيق ذلك الحلم الصعب المنال في الاستحصال على صلاحيات طوارئ مطلقة من البرلمان الفرنسي، ولأول مرة بهذا الشكل في تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة، بما مكّنه فعلياً، من دون الاستناد إلى قرار قضائي، من مداهمة حوالي 3500 منزل لمسلمين مقيمين في فرنسا، حسب الناشط ياسر اللواتي والصحفي الأميركي جلين جرينولد، والتي لم تتمخض إلا عن إجراءات قضائية، تقل عن عدد أصابع اليد الواحدة، حتى بدا أنها تهدف فقط إلى ترهيب الجالية المسلمة في فرنسا، ودفعها عنوة باتجاه التطرف غريزياً، لمواجهة ما تعرّضت له من إذلال واحتقار، بما يسهم في تغذية عديد أولئك الفرنسيين المسلمين العازمين على السفر، للجهاد في المحرقة السورية، انتقاماً لكرامتهم المهدورة، وبما يعني التخلص منهم بشكل مؤقت أو دائم بالنسبة للحكومة الفرنسية؛ بالإضافة إلى ما لم يتم تغطيته إعلامياً في الإعلام الأخطبوطي الغربي المعولم، من مئات المداهمات لمنازل ناشطين نقابيين، وبيئيين، فرنسيين أباً عن جد، ليس لهم أي علاقة بالإسلام قريباً أو بعيداً، ومصادرة أجهزة الحاسوب الخاصة بهم، ومن دون أي سبب منطقي لإذلالهم، سوى مخالفتهم توجهات الحكومة الفرنسية وسياساتها. والأهم من ذلك كله، حظر التظاهرات الشعبية التي كان يعتزم المشاركة بها مئات ألوف الفرنسيين، تزامناً مع قمة المناخ في باريس في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، ومداهمة منازل وأماكن اجتماعات الناشطين الفرنسيين المسؤولين عن تنظيم تلك التظاهرات، والغالبية الساحقة منهم من الفرنسيين البيض غير المسلمين، إلى درجة أنه لم يُسمع إعلامياً، وطوال مدة قمة المناخ، لأي صوت مناهض لصوت الشركات العولمية الكبرى التي كان لها جناح خاص في القمة.
مكّن الواقع الذي خلفته أحداث باريس وبروكسل الحكومات الأوروبية جميعها من اللعب على أوتار المزاج المتطرّف، سواء بطريقة خبيثة مخاتلة، كما هو الحال في فرنسا وبريطانيا، أو قبيحة فجّة، كما هو الحال في بولونيا والتشيك وهنغاريا، وتحويل أنظار شعوب تلك الحكومات عن اقتصاد دولها المتهالك، جرّاء تغول الشركات العابرة للقارات عليه، وتمنُّعِها عن سداد أي ضرائب عن أرباحها لتلك الحكومات التي لا تملك إلا الانصياع لتلك الشركات الوحشية التي تمول حملات سياسييها الانتخابية.
وهو الواقع نفسه الذي مكّن الساسة الأوروبيين من استبدال مهمتهم وواجبهم الجوهري في مواجهة التمييز، والعنصرية، والفقر، والتهميش الذي يعاني منه كل المسلمين، وخصوصاً أبناء الجيلين، الثاني والثالث منهم، في جميع الدول الأوروبية بمستويات مختلفة، بمهمةٍ جديدةٍ تتمثل في زيادة النفقات الأمنية على حساب دافعي الضرائب الأوروبيين، ورمي كل الحريات المدنية التي دفعت الشعوب الأوروبية سيولاً من الدماء للوصول إليها إلى حظيرة الاستبداد المقنع، لصالح تعملق الشركات الأمنية على شاكلة "بلاك ووتر" السيئة الصيت، المرتبطة بشكل مباشر بالتكتلات الاقتصادية العابرة للقارات التي تتحكّم، من خلال تبرعاتها، بسياسات من تقودهم إلى سدة الحكم.
ولأن البعرة تدل على البعير وأثر الأقدام على المسير، فإن الواقع يشي بأنها ليست مؤامرة كبرى، تحتاج إلى فك شيفرتها، وإنما سياسة ممنهجة لغض النظر عما يتوقع، ويراد وقوعه، في تواطؤ مريب مع كل الخبث الداعشي، ومن ولاه، ولف لفه.
3F551E00-D2AC-4597-B86B-AF0030A9D18D
مصعب قاسم عزاوي

كاتب وطبيب سوري مقيم في لندن، له عدد من المؤلفات