لكي لا نعود إلى جراح الماضي

08 فبراير 2016
+ الخط -
اتركوا الأوطان تمتد خارج المساحات المرسومة لها بشكل قسري. ارفعوا عنها كل الممارسات التي تعمل على تكبيلها وكبح تطلعاتها. لا تسيجوا أحلامها بالحسابات الصغيرة والملتبسة. لا ترهقوها بالحروب التي تستعمل فيها أسلحة محرّمة أخلاقيا وقانونياً وإنسانياً، بما في ذلك مهرجانات الذبح الجماعي التي تقترفها الحركات الإرهابية. لا تضغطوا عليها، حتى لا تصاب بالاختناق وتنفجر شرايينها. لا تحاصروها نفسياً. لا تستنزفوا قواها. لا تعيدوها إلى أجواء الجمر والرصاص ووحشة الزنازين وأنين السجناء وصراخ الأمهات. لا تجعلوا من تدبير المرحلة اختباراً لمدى إمساك الحاكمين بزمام الأمور. لا تخلطوا بين الواجب الوطني ومقتضيات الأمن والاستقرار وخدمة المصلحة الشخصية أو العائلية أو الفئوية أو الطائفية. لا تختزلوا الانتماء إلى الجغرافية والتاريخ في مجموعة من الشعارات والعناوين المهيجة والنعرات الدينية المدمرة، وحزمة من المنافع وعدد من المواقع. لا تشرحوا معطيات اليوم ووقائع الراهن بأدوات الأمس، غيّروا النظارات والبذلات، وطرق العلاج والوصفات المقترحة.
لا تحسبوا المطالب الداعية إلى إقامة دولةٍ عصريةٍ، تشتغل بمنطق المؤسسات والقوانين تمرداً على المشترك من الثوابت الهوياتية والثقافية والحضارية والمسلمات السياسية. لا تفهموا حماسة شبيبة متحرّرة من إكراهات الماضي وأثقال الأيديولوجيا وضجيج الديماغوجيا خروجاً عن جادّة الصواب، وتمرداً معلناً ضد الأبجديات السياسية والدينية والثقافية، وثورة مدمرة للأرض والإنسان. لا تعتبروا مطالب الكرامة والحرية والديمقراطية والتوزيع العادل للثروة ومحاربة الفساد والتطرف والإقصاء واقتصاد الريع، ومحاسبة ناهبي المال العام ومنتجي الرداءة في بعض المؤسسات، عصياناً ترفع أعلامه بدون مراعاة أوضاع الدول وحساسية الظروف ومحدودية الإمكانات، وندرة الإرادات الحسنة.

لا تقرأوا السياقات المتوترة عربياً من زاوية التخوين والمؤامرة والأجندة الغامضة، ومن منطلق الاحتواء السريع لتداعياتها وأعراضها والضبط الدقيق لأصحابها. لا تدبروا انقلاباً على الديناميات التغييرية التي انخرطت فيها أوطان وشعوبٌ في المنطقة منذ سنوات. لا تحاربوا تيارات الإصلاح والحداثة والعقلانية والاعتدال والتوافق داخل المجتمع والدولة.
لا تدمروا قلاع التفكير الهادئ والخيال المنتج والتوقع المبني على المعرفة والتجربة. لا تلحقوا أضراراً بزراعةٍ بديلةٍ بدأت شعوبٌ تقطف ثمارها، بعد تكسير حاجز الخوف والشروع في طي صفحة سوداء، مليئة بالدماء والمآسي والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. لا تعتبروا كل دعوةٍ إلى توازن السلطات وتحديد الصلاحيات بأنها تطاول وتجاوز للخطوط الحمر السياسية، ولا تفهموا كل مطالبةٍ بتحديث المظاهر الثقافية والرمزية للحكم بأنها قلة حياء، وانحراف عن سكة الرزانة والتعقل. لا تصنفوا كل صوتٍ تحدّث، بصدقٍ ووضوحٍ عن استحقاقات الأوطان والشعوب التواقة إلى التخلص من التخلف والقمع والعسف في خانة المعارضين العدميين المدمنين على النقد والهدم والرفض من أجل الرفض.
لا تحتكموا إلى حسابات ربح القبائل والعشائر والطوائف السياسية والمذهبية وخسائرها في تدبير قضايا الدولة والمجتمع. لا تبرّروا انتعاش التطرّف والتشدّد وثقافة التكفير بداعي تحصين الهوية الدينية والخصوصية الحضارية. لا تسجنوا مفهوم الوطنية والمواطنة في ما يخدم المصالح، ويقوي الريع ويديم الهيمنة. لا ترجحوا لغة العصا والمطاردات الهتشكوكية على لغة العقل والتحكم الهادئ والمرن في الأمور. لا تنتصروا لمقاربة العناد، فهي مقاربة مضرّة بالبلاد والعباد، ومبرّرة للاستبداد. لا تجهضوا أحلام شبابٍ يُفترض أنه صادق في ما يؤمن به، وما يفعله، ويمتلك درجةً عالية من الوعي والنضج حيال ما يجري من تطوراتٍ وتفاعلاتٍ، ويدرك جيداً طبيعة دوره وحجم هذا الدور.
لا تعبثوا بالورد الذي يزيّن الحياة، ويضفي على الوجود جمالاً وبهاء. لا ترهنوا حاضر الأوطان ومستقبل الشعوب لسيناريو واحد وأوحد. راهنوا على خيار الديمقراطية والعدالة والكرامة والحوكمة والمواطنة والمسؤولية والمحاسبة والمصالحة والتسامح، فهو صالح للجميع، ويجيب على أسئلة الاستقرار والأمن بأبعاده المختلفة، وقادر على إيجاد حالةٍ من التماسك الاجتماعي والوحدة الوطنية في إطار احترام حقوق جميع المكونات. لا تضعوا الحواجز في الطريق، لتفتيش النيات، وتحديد هوية الانتماءات الفكرية والعقائدية. اجعلوا الأوطان فضاءاتٍ مفتوحةً ولامتناهية للحوار والتعايش والتسامح والاختلاف والاجتهاد والبناء والعطاء والمبادرات الخلاقة. لا تصعّدوا ولا تعسروا، فالمطالب والشعارات المنادية بالحرية والعدالة والتوزيع العادل للثروة واحترام حقوق الإنسان، وتطبيق القانون وإقامة دولة المؤسسات، ليست ضرباً من المستحيل، والشعوب التي ترفعها لا تبحث عن معجزات، إنها مطالب من صميم الممكن في كل شيء، واختزال للمشترك الجماعي. تستحق الشعوب التي تريد صناعة التاريخ بشكل مغاير سلمي وإنساني وحضاري شكلا آخر للحكم وللوطن، وتسييراً لشؤونها بطريقة مغايرة، وإنصاتاً مسؤولاً لمشكلاتها، وسياسة تسوس أمورها ومعضلاتها وتسوي هذه المشكلات، وهي مقتنعة بأنها تنتمي فعلاً إلى مجال جغرافي وتاريخي، بكامل العزة والكرامة. لا تزرعوا الشوك في طريق الإصلاح والتغيير والبناء الديمقراطي، فمن شأن زراعة الشوك أن تدمي أقدام الأوطان والشعوب، وكل قطرة دم تسيل هي عودة إلى دهاليز الماضي وجراحه وأشباحه وظلماته وكآباته وفظاعاته.

وإذا كان النزوع إلى تغذية هذه الهواجس وتكريسها أمراً مشروعاً، ونابعاً من الرغبة الصادقة في تحديث الدولة في المنطقة العربية، وتمكينها من مقومات الاستقرار المؤسساتي ووسائل إنتاج العلاقات الديمقراطية، فإن عدم الالتزام بمساءلةٍ عميقةٍ وفكريةٍ ومنهجيةٍ للفعل السياسي، ولطريقة اشتغال الدولة ومؤسساتها، والقيم التي يقبلها أو يرفضها المجتمع، ولطبيعة النسيج الثقافي ووظائف الحقل الديني والنموذج الاقتصادي ومراكز النفوذ فيه، سيشكل دائماً عائقاً بنيوياً ونفسياً، وقصوراً معرفياً، وسبباً رئيساً، يرغمنا على الدوران في الدائرة المغلقة نفسها، فيما نحن نسعى إلى التحرّر من أغلال هذه الدائرة وإكراهاتها، وهذا ما يضع على عاتق النخب السياسية والفكرية المتفاعلة بشكل إيجابي مع محيطها، مسؤولية تاريخية لطرح الأسئلة الجوهرية والأساسية التي يفرضها السياق الراهن، من دون نفاق فكري، أو افتراء على التاريخ، إرضاءً لجهة ما.
كما يتعيّن على الأحزاب السياسية في المنطقة العربية أن تمنح الفرصة لانبثاق نخب جديدة قادرة على المبادرة خارج تأثير أي وصايةٍ أو توجيهات فوقيةٍ متعالية عن الواقع، ومترفعة عن سباق المسافات القصيرة في حروب المصالح الضيقة، ومتحرّرة من أيديولوجيا المؤامرة. فمن شأن هذا السلوك أن يرتقي بالفاعل السياسي، ممثلاً بالحزب، وأن يجعل منه قوة اقتراحية، وأداة ضاغطةً، ينصت إليها ويؤخذ برأيها، وهذا هو المدخل لكسب ثقة الشارع، وإعادة الاعتبار للقيم السياسية ونبل السياسة، والأفكار الصانعة للمشاريع، والراسمة مسالك الإصلاحات الديمقراطية. وهذا ما سيؤسس قطيعة حاسمة ومفصلية مع استراتجية التبرير واتهام الآخر ورفضه، أكان مجسداً في الدولة، أم في الأحزاب المكونة للمشهد السياسي.