رام الله

05 فبراير 2016

تحولت رام الله إلى مدينة مشوهة المعالم بالعمران والمطاعم(Getty)

+ الخط -
أحببت، منذ زيارتي الأولى رام الله، أن أكتب نصاً عن هذه المدينة الحائرة والمحيرة. تحولت رام الله من خربة في القرن السادس عشر، بنتها عائلة مسيحية من شرق نهر الأردن، إلى بلدة يقصدها المصطافون الفلسطينيون والعرب، حتى أن بعضاً من العرب تملّك أرضاً هناك صادرتها إسرائيل بعد احتلال عام 1967، وبنت عليها مستعمرات. وبعد اتفاقيات أوسلو، ونشوء السلطة الوطنية الفلسطينية، وتعزيز وجود الجسم الأساسي للسلطة، رئاسةً ووزارات ومراكز الأجهزة الأمنية، صارت تلك الخربة المدينة عاصمة إدارية وثقافية مؤقتة للسلطة الفلسطينية.
حيرة رام الله في كل شيء، فهي بدأت بلدة مسيحية تتخللها الكنائس المختلفة، ثم شهدت، عبر العصور المختلفة، زحفاً من سكان القرى المسلمة حولها، ففقدت هويتها الخاصة، فبات المسيحيون أقليةً بالمقياس لعدد السكان الإجمالي. ثم أحاطتها، بعد النكبة والنزوح القسري لأهالي القرى والمدن الفلسطينية من الداخل، مخيمات تؤوي لاجئين مسلمين، صاروا جزءاً من مجتمع المدينة، وأشهر هذه المخيمات الأمعري والجلزون. وبدأت رام الله تعيش حيرةً جديدةً في الاختلافات بين السكان الأصليين واللاجئين، مع ما تحمله تلك الاختلافات من أسئلةٍ تتعلق بالفروق الاجتماعية والدينية، ونظرة اللاجئ إلى المواطن، ونظرة الأخير إلى الأول. وما إن جاءت السلطة، وحملت معها عشراتٍ ممن أطلق عليهم صفة "العائدين"، حتى برزت حيرة جديدة بين أولئك الموظفين في السلطة، الذين نُظر إليهم بعين الريبة والحسد والنبذ في حالات كثيرة، كونهم جاؤوا مع وظائفهم ومواقعهم الوظيفية والامتيازات التي حصلوا عليها، كاقتناء سيارة وأثاث منزلي، بإعفاء من الرسوم الجمركية، وبناء المنازل على أراض مشتراة من السلطة بأسعار زهيدة. ليس هذا فحسب، بل عاد هؤلاء العائدون يحملون تجربة معيشية في لبنان وتونس وسورية، ميّزتهم عن أهل المدينة، فأطلق عليهم تسمية "التوانسة". شعر سكان رام الله بالخيبة من العائدين ورفاهيتهم الواضحة، مما جعل المدينة تدخل في طور آخر من الحيرة والقلق، في التماهي مع التركيبة الاجتماعية الآخذة بالتطور تدريجياً، إلى أن بدأ الرأسمال الفلسطيني أخيراً الذي ترعرع وشبّ في ظل السلطة يضع مشاريع عمرانية، صارخة في عشوائيتها، وباذخة في بنيتها، مما أحدث اغتراباً حاداً لدى المواطنين إزاء هذه الطفرات، وعدم القدرة على المشي معها في درب المواطنة الواحد.
جذب وجود السلطة دفقاً هائلاً من المنظمات غير الحكومية، التي أصبح القائمون عليها من الفلسطينيين، وخصوصاً من بقايا اليسار الفلسطيني التالف، يشكلون طبقة جديدة، أو مجتمعاً خاصاً قائماً بذاته، رفاهاً ووهماً بالاختلاف عن الفساد القائم في السلطة. وما زاد الأمر دليلاً على الفشل في إيجاد حلول للمشكلات الاجتماعية والسياسية بروز مراكز الدراسات الفكرية والسياسية، الممولة خارجياً، بهدف دراسة المعضلات القائمة، وهي، في الواقع، تحولت إلى مراكز للعيش والترف وإقامة المؤتمرات في فلسطين والخارج، والتمتع بالفنادق والسفر، وبقيت المعضلات على حالها.
في زيارتي الأولى رام الله، صيف 1999، شعرت بحزن لحال المدينة، بمنازلها الحجرية الجميلة المتروكة من أصحابها المهاجرين في الأميركيتين. وكان مبنى المقاطعة الموروث من عهد الانتداب البريطاني، والإدارة الأردنية لاحقاً، ثم أصبح مركزاً للرئيس ياسر عرفات، وتحول، بعد رحيله في عهد محمود عباس، إلى ما يشبه القصر الرئاسي، المبنى الأضخم في المدينة. اليوم، تحولت رام الله إلى مدينة مشوهة المعالم بالعمران والمطاعم والمقاهي، ولم تعد تلك البلدة الصغيرة الوادعة على علو 800 متر من سطح المتوسط. وفقدت هويتها وطفولتها البريئة.
في لقاء مع محمود درويش في رام الله، سألني: من أين أنت أصلاً يا نصري؟ فقلت له من الناعمة في الجليل. فقال مستنكراً: وتريد أن تعيش في رام الله؟ أم أنك تريد الاقتراب من الجليل؟ قلت له ربما هذا هو القصد اللاواعي.. ربما.
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.