عرسال... من التهميش إلى الصدارة

01 مارس 2016

قوة من الجيش اللبناني في عرسال (6 أغسطس/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -
تعيش بلدة عرسال اللبنانية، منذ نحو سنتين، شبه حصار بسبب المعركة التي شهدتها في أغسطس/آب 2014 بين الجيش اللبناني ومجموعات مسلحة، في مقدمتها تنظيما الدولة الإسلامية (المعروف بالدولة الإسلامية في العراق والشام ـ داعش سابقاً) وجبهة النصرة، وخلفت تدميراً وقتلاً لمدنيين وجنود لبنانيين ومسلحين كثيرين، وأسر عناصر من الجيش والأمن العام.
قد تكون السلطات اللبنانية واجهت في عرسال معضلة صعبة، فاقتراب مد التطرف السني في سورية من الحدود اللبنانية كان يُنذر بمخاطر كبيرة تهدد أمن لبنان ككل، فما كان على الجيش سوى إحكام قبضته الأمنية والعسكرية على هذه البلدة النائية المحاذية للحدود السورية في الشمال الشرقي، فارضاً طوقاً عليها، ما أدى إلى انهيار اقتصاد البلدة، الضعيف أصلاً، وتفاقم مشاعر الغضب والظلم بين أهاليها، وتزايد معاناة اللاجئين السوريين في البلدة وجرودها الذين يتراوح عددهم بين ثمانين ألفا ومائة وعشرين ألفاً، أي ما قد يفوق ثلاثة أضعاف العراسلة أنفسهم.
يسلط وضع عرسال الضوء على نموذج عام في لبنان، يتخطى حجم هذه البلدة البعيدة أو دورها. فهو يلخص، أولاً، انتهاج الدولة اللبنانية لحل أمني/عسكري، كلما واجهتها اضطرابات (حتى تلك المتعلقة بأزمة النفايات). في مواجهة خطر التطرف خصوصاً، قد يبدو هذا الحل مفهوماً، لا سيما بسبب استقرار لبنان الهش الذي لا يسمح بالتراخي أو المجازفة، وفي ظل الحرب السورية الدامية والانهيار شبه الكامل لسائر مؤسسات الدولة الذي يجعل من الجيش القوة الوحيدة الفاعلة، لا بل يبدو هذا الحل مغرياً، إذ يوحي بالمحافظة على استقرارِ ما، وإنْ ظاهرياً، إلاّ أنه ينذر بخطورة كبيرة وقصر نظر عميق، إذ يعالج الأعراض، في حين يعزّز، وإن من غير قصد، المسببات العميقة لعدم الاستقرار. وهو، لعدم انضوائه ضمن استراتيجيةٍ سياسيةٍ شاملةٍ، تأخذ في الاعتبار الاحتياجات الضرورية والمطالب المشروعة للمواطنين، وتحترم الكرامة الإنسانية، أكثر ما يخدم المجموعات المتطرفة التي تتغذّى على مشاعر الغبن والظلم والحقد والتهميش.
ليس مبالغاً القول إن اضطراباتٍ كثيرة يعيشها لبنان هي من صنيعة الدولة اللبنانية نفسها، ونتاج لسياسات طويلة من الإجحاف، بل بسبب انعدام السياسات أصلاً، والذي دفع شرائح واسعة من المجتمع إلى البحث عن بدائل من خارج إطار الدولة، لتُتهم، بعد ذلك، هذه الجماعات بالخروج عن طوع الدولة وتهديد أمنها. عرسال هي إذاً نموذج لنهج التخلي في لبنان، تخلي المركز عن الأطراف، ليس أطرافه البعيدة والنائية، مثل البلدة البقاعية فحسب، بل أطراف قد تكون قريبة جداً، تقع أحياناً في قلب العاصمة بيروت، على بعد أمتار قليلة من وسطها التجاري. يسهل على كثيرين إضفاء وصمة "الخروج على الدولة" على مناطق عديدة، بدءاً من عرسال، مروراً بجبل محسن وباب التبانة ومحيطيهما في طرابلس وقرى بقاعية وعكارية وجنوبية وأحياء في بيروت والضاحية الجنوبية وانتهاءً بالمخيمات الفلسطينية والسورية. إلاّ أنه إذا كان ثمّة ما يريده فعلاً سكان جميع هذه "المناطق الخارجة على الدولة"، فهو بالتحديد وجود أكبر لهذه الدولة، بوجهها المدنيّ لا العسكري. فاللبنانيون عامة (كما الفلسطينيون والسوريون، وإن بشكل مختلف)، وفي الأوساط التي تغيب فيها الدولة أكثر من أي مكان آخر، يتوقون إلى أن توفر لهم الأخيرة الخدمات الأساسية وفرص العمل ومشاريعَ اقتصادية وإنمائية وتمثيلاً سياسياً أفضل، وأن تجد حلاً للمشكلات المتفاقمة، أوّلها أزمة اللاجئين السوريين، وأن تحرص على أمنهم، لا أن تمارس العقاب الجماعي في حقهم.

على صعيد آخر، تلخص عرسال نهج التطويق الذي تتبعه الدولة اللبنانية، كلما جابهتها مشكلة عنفية، هو تطويق قسم من مجتمعها ورقعة من أرضها، بحجة حماية قسم آخر ورقعة أخرى. ذهبت الإجراءات العسكرية التي وضعها الجيش اللبناني في عرسال من دوريات وحواجز تفتيش وتدقيق في الهويات، ذهبت إلى حد فرض تصاريح لزيارة البلدة، يصعب الحصول عليها أصلاً، ما حدّ من حركة التنقل من البلدة وإليها. جاءت حالة عرسال، لتضيف إقصاء شريحة جديدة من السكان عن بقية المجتمع، وعزل جزء إضافي من لبنان عن أراضيه، محوّلة هذا الجسم إلى كيان مرقّع بالاستثناءات (أي رقع جغرافية تجري عليها خصوصيات معينة). أما بالنسبة إلى لبنانيين كثيرين، فلا يبدو أن الوضع في عرسال، وغيرها من الأماكن، يثير لديهم أكثر من قلق مؤقت. فهم، غالباً، لا يبالون بهذه التدابير التي تطال بلدة بعيدة، ربما لم يكن عديدون منهم عرفوا بوجودها قبلاً، والتي لا تؤثر على مجريات حياتهم اليومية، بل يذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك، مبرّرين الإجراءات العسكرية، ومحمّلين أهاليها مسؤولية التدمير والقتل وأسر عناصر الجيش والأمن العام الذي خلفته معركة 2014، لإيوائهم "الإرهابيين"، على حد تعبيرهم.
وبالعودة إلى دور عرسال في الحرب في سورية، كان هذا الدور ضعيفاً في المراحل الأولى للانتفاضة السورية، ربما لاعتقاد سائد في أوساط خصوم النظام آنذاك بأن الأخير كان على وشك الانهيار. وفي مرحلة لاحقة، حال قمع النظام السوري في حمص، وسيطرته على منطقة القلمون، إضافة إلى نفوذ حزب الله الواسع في منطقة البقاع، حالت كل هذه العوامل دون تحويل عرسال إلى بوابةٍ خلفيةٍ للمعارضة السورية المسلحة، وذلك حتى في تقدير أحد كبار مسؤولي حزب الله نفسه. إلا أن هذه الوقائع لم تمنع بعض حلفاء النظام، ومنهم وزير الدفاع السابق، فايز غصن، المنتمي إلى تيار المردة (بقيادة سليمان الفرنجية المقرّب من بشار الأسد)، لم تمنعه من اتهام عرسال بإيواء مسلحي "القاعدة" في ديسمبر/كانون الأول 2011، في وقت لم تكن الجهادية السنية قد صبغت المعارضة السورية المسلحة بعد، ولم يكن لها وجود يُذكر في عرسال، في ما يشبه النبوءة التي تحقق نفسها.
جاءت تغيرات شهدتها الساحتان اللبنانية والسورية، منذ نهاية سنة 2012، لتربط مصير عرسال بتطورات الأحداث في سورية. شهدت المعارضة المسلحة تدفقاً تصاعدياً لمقاتلين أجانب، فاقم الانقسامات المذهبية، وهيمنت القوى الإسلامية المتطرفة تدريجياً عليها، كما سيطرت الأخيرة على مناطق محاذية للحدود اللبنانية في جبال القلمون. وقد شكلت معركتا القصير سنة 2013 ثم يبرود (مارس/ آذار 2014) نقطتي تحول مهمتين، خصوصاً بالنسبة إلى دور عرسال في الصراع السوري. لم تؤدِ هزيمة المجموعات المسلحة بالمقاتلين إلى الهرب جنوباً دافعةً بهم أقرب إلى عرسال فحسب، بل منحت معركة القصير، خصوصاً، نصراً معنوياً، كان النظام السوري في أمسّ الحاجة إليه، كما كانت هذه المواجهة مفصليةً بالنسبة إلى مشاركة حزب الله العلنية للمرة الأولى في سورية. انخراط حزب الله الكامل في الحرب السورية وضعه وجمهوره، والشيعة عامة، في المرمى المباشر للمجموعات السنية المتطرفة، وإن كان، من منظور الحزب، أن مشاركته جاءت نتيجة لهذا الاستهداف الواقع أصلاً، وليست مسبباً له.
وعليه، رزحت عرسال وجرودها تحت وطأة هذه التطورات من قصف للطيران السوري وانتشار مجموعات المعارضة المسلحة في محيطها، وارتبط اسم البلدة بهجمات وتفجيرات، أكثرها ذات طابع انتحاري سنيّ، استهدفت الجيش اللبناني وحزب الله وأحياء تقطنها أغلبية شيعية في الضاحية الجنوبية لبيروت والسفارة الإيرانية في العاصمة، وصولاً إلى معركة الجيش ضد تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة في أغسطس/آب 2014.
ربما يكون حصار عرسال، إضافةً إلى إجراءات أمنية اتخذت في سائر أنحاء لبنان، عرفت بما تسمى "الخطة الأمنية"، قد أدى إلى تراجع حدة العنف، إلاّ أنه لم ينهه تماماً. فلا الاعتداءات ضد المدنيين والجيش توقفت بشكل كلي ولا تسلل المقاتلين إلى البلدة انتهى نهائياً، أما الجرود فلا تزال تشهد معارك بشكل دوري، وجديدها بين "الدولة الإسلامية" وجبهة النصرة. في أحسن الأحوال، يبدو أن القوى اللبنانية لا تزال تراهن على تجميد وضع راهن مترهل، مخافة الاقتراب من مشكلاتٍ مستفحلةٍ ومتشعبةٍ، فتفيض بشكل لا يسمح بإعادة احتوائها، ليس أقلها ارتباط لبنان بالحرب السورية، والتطرف المذهبي، سنياً كان أم شيعياً، والخلل العميق للنظام الاقتصادي والانهيار المستمر لمؤسسات الدولة.

avata
سحر الأطرش

محللة سياسية في مجموعة الأزمات الدولية