"الإله" يتطاول على "الزعيم"

21 فبراير 2016
+ الخط -
أصبح إعلام الصوت الواحد أبرز سمات الإعلام المصري بعد الانقلاب في 3 يوليو/ تموز 2013، وهذا الصوت بالطبع هو رأي النظام فقط، مع تغييب كامل لصوت كل من يعارضه. وقد كان هذا التوجه واضحاً، منذ الدقائق الأولى لما بعد إلقاء عبد الفتاح السيسي خطابه في مساء ذلك اليوم الذي أعلن فيه عزل الرئيس محمد مرسي، إذ انطلقت قوات من الجيش والشرطة لمحاصرة وسائل الإعلام التي من المحتمل أن تعارض ما حدث وإغلاقها.
لكن، على الرغم من غياب معارضي الانقلاب والسيسي، إلا أن الإعلام المصري، مع ذلك، وجد مساحة من ساعات بثه وصفحات جرائده لاستضافة معارضين من نوع آخر، بصورة مكثفة في الأسابيع الأخيرة. أحدهم شخص يدعي النبوة، تهافتت الصحف والقنوات الفضائية لاستضافته وإجراء حوارات معه، ليتحدث عن خرافاته ويعرض خزعبلاته أمام ملايين المصريين، والمضحك أن "النبي" الجديد لم يستطع تمالك أعصابه، في إحدى الحلقات التلفزيونية التي حل بها، ليعتدي بالضرب على الضيف المقابل له، بعد أن خلع جلبابه على الهواء، مثلما يحدث في معارك الشوارع بين الفتوات والبلطجية، ودخل معه في مشاجرةٍ مضحكةٍ، أماتت مشروع نبوته قبل أن يبدأ. لكن، من المؤكد أن أكثر الناس سعادة بذلك هم مسؤولو القناة نفسها التي حدثت فيها تلك المشاجرة، فذلك ضمن لهم رواجاً ونسبة مشاهدة كبيرة.
قبل ذلك "النبي" بأشهر، كانت هناك "هوجة" إعلامية أخرى مفاجئة عن مدّعٍ آخر للنبوة في محافظة الشرقية، هو نجل أحد مشايخ الطرق الصوفية، وتحدث شهود عيان عن حماية ضباط شرطة له، وأن أتباعه من الضباط والمستشارين والقضاة، وأن مشاهير كثيرين من رجال السياسة والفن والرياضة يأتون إليه، لينالوا من بركاته، وأنه في أثناء صعود الرجل لمنزله، يكنس أحد اللواءات سلالم العقار خلفه، ليتبارك به. وكان لافتاً دفاع أحد أبرز الأذرع الإعلامية عن الرجل، وإصدار الأخير بياناً لنفي الأمر، ليختفي الموضوع فجأة من أجندة الإعلام، ولا يعود إلى الواجهة مرة أخرى، بعد أن نوقش أياماً قليلة.
ظهر أحد الدعاة في قناة فضائية، لينتقد بعض القنوات الفضائية التي استضافت مدّعي النبوة، والسماح لهم بطرح أفكارهم على العامة. لكن، ما هي إلا أيام قليلة، حتى كانت القناة التي ظهر فيها ذلك الشيخ تستضيف شخصاً يدّعي الألوهية، وليس فقط النبوة.
لم يشعر مذيع القناة بأي قلق، وضيفه يدّعي الألوهية (الذي كان يتناقض مع نفسه تارة أخرى،
ويقول إنه مرسل من الله، ويبدو أنه لا يعرف الفرق بين النبوة والألوهية). لكنه شعر بالذعر، عندما توعد السيد الإله الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بحبسه هو وأعضاء المجلس العسكري، وحل مجلس النواب، والإفراج عن المعتقلين السياسيين! عندها، فقد المذيع أعصابه، وطالب مدعي الألوهية بالحديث "بالعقل"، على حد قوله، ثم قرر طرده من الحلقة، بعد أن تجرأ الإله على الرئيس! كما اتهم المذيع مدّعي الألوهية بأنه من "عبدة الشيطان"، في مشهدٍ عبثي، يليق بإعلام من هذا النوع، حتى إن صحيفة لم تجد غرابة في نشر خبرٍ يتحدث عنوانه عن طرد "مدّعي الألوهية"، بعد تطاوله على السيسي.
آخر هذه الحالات من "المعارضة" كانت سيدة ادعت أنها "دابة الله في الأرض" التي ستأتي في آخر الزمان، وأنها مذكورة في الآية 82 من سورة النمل، وأن الله أرسلها لكي تنقذ البشرية من المسيح الدجال!
الغريب أنه كان هناك إصرار غريب من وسائل الإعلام على "النفخ" في هؤلاء الأشخاص، وتضخيمهم وكأنهم قضايا جدية، تمثل خطراً على المجتمع، وخصصت فضائيات حلقات كاملة لمناقشة الموضوع، واستضافة شيوخ للرد عليهم، وعمل مناظرات بينهم وبين أساتذة وشيوخ في الأزهر، انزلقوا إلى هذا المستوى، من أجل حب الشهرة والظهور بمظهر الغيورين والمدافعين عن الدين، كأن المصريين قد اتبعوا هؤلاء أفواجاً، حتى يحتاج الأمر كل هذا كله، وكأن الأمر في حقيقته ليس إلا استغلالاً منحطاً من الإعلام لأشخاصٍ مرضى نفسيين لاجتذاب المشاهدين.
المشترك بين استضافة مدّعي النبوة و"دابة الأرض" أن من استضافهما على شاشة القناة التي يعمل فيها هو المذيع صاحب فضيحة أسر قائد الأسطول السادس البريطاني الشهيرة، والتي جعلته مثار سخرية واستهزاء الجميع، حتى إنه اضطر إلى الاختفاء عدة أشهر، قبل أن يعود بعد تراجع الحديث عن فضيحته.
أما من استضاف مدّعي الألوهية فهو نصاب يدّعي أنه طبيب، ولديه عدة مراكز لبيع أعشاب مجهولة، باعتبارها أدوية تعالج كل الأمراض، وقد أمرت النيابة من قبل بضبطه وإحضاره، للتحقيق معه بتهمة النصب وتصنيع أدوية ومستحضرات تجميل مجهولة المصدر، وغير مرخصة من وزارة الصحة. واتهمه المركز المصري للحق في الدواء بأنه أهم المساهمين في تعزيز خداع المواطنين، وبيع الوهم لهم واستغلالهم، عن طريق منتجاته التي سحبتها وزارة الصحة من الأسواق، وهي صفات مشرفة جداً كما نرى، وأهلته بجدارة للحصول على عضوية مجلس النواب المصري في عهد السيسي، كما أنه يرأس القناة التي يقدم فيها برنامجه.
ليست تلك الظواهر غريبةً على الإعلام المصري الذي يسلط الضوء على مثل تلك الشخصيات، بصورة دورية منذ سنوات، حتى إنها تضمنت عديدين من مدّعي النبوة، ومن يدّعي أنه المهدي المنتظر وغيرهم، لكن الجديد الآن هو اقترانها بتجاهل معارضي السيسي وسيادة إعلام الصوت الواحد، مثلما أسلفنا.
كانوا يقولون للشباب بعد تنحي حسني مبارك إن من يريد المعارضة، فإن ميدان التحرير موجود، لكن الميدان الآن مغلق بالدبابات والمدرعات والجنود الذين لديهم أوامر بقتل كل من يفكر بالاقتراب. أما من يريد معارضة الله، فلديه الإعلام المصري، وسيجد فيه متسعاً رحباً لذلك.


D90F1793-D016-4B7E-BED2-DFF867B73856
أسامة الرشيدي

صحفي وكاتب مصري، شارك في إنجاز أفلام وحلقات وثائقية عن قضايا مصرية وعربية، وكتب دراسات ومقالات نشرت في مجلات ومواقع إلكترونية.