الإعجاب والخوف من الغرب

08 ديسمبر 2016

شكيب أرسلان: لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم؟

+ الخط -
لا يمكن إنكار علاقة السياقات التاريخية بنظرة البشر بعضهم إلى بعض. للشعوب ذاكرة يتوارثونها جيلاً بعد جيل، يضيفون عليها، ويحذفون منها، بحسب الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. لكن، هناك شيء في الماضي البعيد يؤثر في رؤيتنا لأنفسنا، وللآخرين من حولنا.
عند قراءة علاقة الشعوب ببعضها، نجد تأثيرات الذاكرة، والصور النمطية التي تُحدثها الأدبيات القديمة، ويعزّزها الإعلام اليومي، وهناك علاقات القوة "الغالب والمغلوب" وقضايا مثل الهيمنة والسيطرة ..إلخ، كلها تحكمنا رغماً عناً.
ومن أكثر القضايا إشكاليةً في هذا السياق، من زاويتنا، علاقة العرب والمسلمين عموماً (غالبا يستخدم الوصفين مترادفين في الأدبيات الغربية) بالأوروبيين والأميركيين، أو ما اصطلح على تسميته "العالم الغربي".
بسبب تباين الحضور العالمي بين الجانبين، تفوّق العالم الغربي الهائل في مقابل تفكك العالم العربي وانهياره، تتكرّر محاولات إثبات تفوق "أخلاقي" بصيغةٍ ما للعرب والمسلمين على الغربيين، أو محاولة إثبات "الجذور العربية الإسلامية" للتفوق الذي يتمتع به الغرب اليوم.
هنا، وبغض النظر عن حقيقة التباين الأخلاقي، أو الدور الحضاري العالمي الذي لعبه العرب في قرونٍ خلت، يبدو وكأن العودة إلى هذا الموضوع اكتسبت بعداً تطهريا، لتبرير الانهيارات الحالية تحت لافتة "كنا حضارة عظيمة .. وحضارتكم اليوم بنيت على إرثنا".
على الجانب الآخر، هناك اهتمام أكاديمي عال بعلاقة أوروبا بالآخر، خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية، وربما تأتي في هذا السياق محاضرات وليام مونتغمري واط في سبعينيات القرن الماضي في جامعة كوليج دو فرانس، والتي ترجمت، أخيراً، إلى العربية تحت عنوان "تأثير الإسلام في أوروبا العصور الوسطى".
تتطرق المحاضرات إلى لحظة احتكاك الإسلام بأوروبا، من "الفتوحات الإسلامية" إلى التأثيرات التجارية والتقنية، مروراً بما أضافه العرب إلى مجالات العلوم والفلسفة، وليس انتهاء بـ "الحروب الصليبية".
يلخص واط رؤية الأوروبيين إلى العرب والمسلمين آنذاك (القرون الوسطى) بعبارة محدّدة "موقف غرب أوروبا نحو العرب قد شمل موقفين متناقضين، هما: الخوف العميق من جهة، والإعجاب المصحوب بالاعتراف بعلو شأنهم من جهة أخرى"، وهذا موقفٌ متفهمٌ ومبرّرٌ تماماً.
سيكون الخوف نتيجة طبيعية للحروب بين العرب والأوروبيين، والتي انتهت غالباً لصالح العرب. حتى "الحملات الصليبية"، والتي نجحت باحتلال أجزاء واسعة من فلسطين، هُزمت بالنهاية فيما يعرف بـ "حروب الاسترداد".
كذلك للإعجاب ما يفسّره، فالتقدم العسكري رافقه أيضاً تطور في العلوم والطب والفلسفة ... إلخ، وكان الاحتكاك بين الجانبين يتيح للأوروبيين الاعتراف، ولو ضمنياً، بتفوق العرب، والوقوع تحت وهج هذا التفوق.
المثير في صياغة واط لنظرة الأوروبيين إلى العرب في القرون الوسطى أنها تصح بدرجةٍ ما، على رؤية العرب للعالم الغربي (أوروبا وأميركا الشمالية) اليوم، تحت وقع عوامل مشابهة.
فالعرب لا يخفون، منذ منتصف القرن التاسع عشر، إعجابهم بالنموذج الأوروبي في مجالات العلوم والفلسفة والطب والصناعة. ..إلخ، ويلخص هذا الواقع سؤال شكيب أرسلان الشهير "لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم"؟ فهذا إقرار مبكر بـ "علو شأن" أوروبا، في وقتٍ لم يكن فيه الاحتكاك بالأميركيين كبيراً، ولم تبلور الأخيرة نفسها قوة دولية، الأمر الذي تأخر حتى الحرب العالمية الأولى.
في تلك الفترة أيضا، بدأت الأراضي العربية تتهاوى أمام الاستعمار الأوروبي، ولاسيما بعد انهيار الخلافة العثمانية، فأضيف إلى الاعتراف بـ "علو شأن" الحضارة الغربية الانهزام العسكري أمامها.
لا أتحدّث هنا عن العالم العربي، بوصفه يعيش في "القرون الوسطى" الأوروبية، على غرار الهجائيات الليبرالية للعرب، ومحاولات الإيمان بخلاص "تنويري حداثي"، على غرار السياق الأوروبي، لكن تكرار العوامل المؤثرة "التفوق العلمي" و"التفوق العسكري" أوجد نظرةً مشابهةً تتراوح بين الإعجاب والخوف، الإعجاب بهذا المتفوق في مجالات الحياة كافة، والخوف من طغيانه، والوقوع تحت نفوذه وهيمنته.
424F7B7C-113B-40E9-B0BD-EFA3B6791EB5
بدر الراشد

كاتب وصحافي سعودي