الوصية الأخيرة للزعيم

07 ديسمبر 2016
+ الخط -
قبل أن يموت، ترك وصيةً جميلةً قد تمحو بعضاً من القبيح في سيرته، أوصى الرفاق بنسيانه والامتناع عن تسمية أي شارع أو ساحة أو حديقة باسمه، ولا حتى تمثال يخلد ذكراه، إنها واحدة من إشراقات الزعيم الكوبي الراحل فيديل كاسترو.
من كان يظن أن الرفيق فيديل سيموت على فراشه عن 90 عاماً، وهو الذي كان موضوعاً، منذ نصف قرن، على لائحة CIA ضمن الشخصيات المطلوب اغتيالها اليوم قبل الغد؟ من كان يعتقد أن نظاماً شيوعياً في دولةٍ صغيرة، مثل كوبا، سيصمد طوال هذا الزمن أمام ضربات الأخ الأكبر، أميركا، وأن الذي نصب الصواريخ النووية السوفييتية في خليج الخنازير موجهة رؤوسها إلى البيت الأبيض، سيطول به المقام في السلطة كل هذه السنوات، وسيصمد إلى أن يأتي باراك أوباما فيرفع الحظر عن هافانا، ويزور آخر دولةٍ شيوعية في العالم، موزّعا الابتسامات والوعود والآمال في طَي صفحة الماضي؟
يحكي شيخ الصحافيين الفرنسيين، جون دانيال، أنه تقدم للعب دور الوساطة بين فيديل كاسترو والرئيس الأميركي، جون كيندي، الذي حاول اغتيال زعيم الثورة الكوبية مراتٍ، فبدأ رحلته من واشنطن، ثم نزل إلى كوبا، وفيما هو يتحدّث مع فيديل كاسترو في مكتبه، فجأة دخل مساعده الأقرب، وأخبره بأن كيندي قُتل برصاص أميركي. انتهى الكلام وانتهت الوساطة، وانتقل الرئيس والصحافي إلى موضوع آخر. هذا هو كاسترو، مزيج من الفكر والثقافة والشعبوية والحظ والخطابة والسحر. رجل ينحدر من وسط بورجوازي صار أيقونة الدفاع عن الفقراء والمهمشين في العالم. كان حلمه، منذ وصل إلى الحكم سنة 1959، أن يصير منظّر الفكر الشيوعي في أميركا اللاتينية، يجمع بين النظرية والسلطة من أجل إحلال جنة البروليتاريا فوق أرضٍ مليئة بالمصالح والأنانيات وحب التملك والسعي إلى المال. المال الذي قال عنه الإنجيل إنه أساس كل شر، وجاءت الرأسمالية، وقلبت الآية وقالت: "نقص المال أساس كل شر".
ملأ كاسترو، على مدى 57 عاماً من حكمه، البلاد بالخطب والوعود التي لم يتحقق منها سوى القليل. زعيم قريب من شعبه وسيجار كوبي رفيع أصبح عليه توقيع الزعيم، جيش من الأطباء، حيث نجح النظام الشيوعي الكوبي في جعل البلاد مصحةً كبيرة لطب متقدّم ورخيص، ولولا الحظر الذي فرضته أميركا على كوبا لانتقل جل فقراء أميركا إلى التطبيب في ضيافة الزعيم الشيوعي.
كان رأسمال كاسترو الأول هو معاداة أميركا والتشنيع على الإمبريالية، حيث جعل من السياسة الخارجية محور الحكم، فالزعيم أكبر من أن ينشغل ببناء الطرق والمواصلات، وتوفير مناصب الشغل، وبناء المساكن، وتطوير الصناعات، وزيادة دخل المواطن. كان فيديل وتشي غيفارا مولعين بتصدير الثورة إلى العالم، ومحاربة الدول الرأسمالية، ودفعها إلى دخول المتحف، باعتبارها من بقايا العصور الماضية. تآكلت كل هذه الرومانسيات واليوتوبيات مع الزمن، وغرقت مع آلاف الشبان الذين ماتوا وهم يهمّون بعبور الأطلسي إلى أميركا عدوّة الشعوب. صدق محمد البرادعي عندما قال: "عجبا لشعوب العالم الثالث، كلها تسب أميركا، وكلها تحلم بالهجرة إليها".
لم يشغل كاسترو نفسه بالديمقراطية ولا بالتعدّدية ولا بالحرية. كان يخطب ويخطب، حتى يتعب منه الناس، فيقصدون بيوتهم للنوم في أحضان زوجاتهم استعدادا لخطاب جديد، ومن يعترض يُحرم من سماع خطاب الزعيم الموالي، فيرسل إلى السجن أو الإعدام، فلا مكان في كوبا لأعداء الثورة، و"الثورة هي كاسترو"، على وزن شعار لويس الرابع عشر "الدولة هي أنا".
قبل أن يموت الزعيم بسنوات، كان يشعر بالأسى، وهو يشاهد إعلانات بلاده السياحية في المحطة الأميركية "CNN". أصبحت البلاد التي كانت تحلم بتصدير الثورة تستورد السياح من فلوريدا وشيكاغو ونيويورك، وتوفر لهم استقبالاً حارّا على شواطئها الجميلة والعذراء. هذا كل ما تستطيعه هافانا في عصرٍ صار بلا رومانسيات ولا شعارات ولا أحلام، ولا كاتب موهوب مثل غارسيا مركيز، يجلس إلى جانب الرفيق، يساعده في التخلص من الملل الناتج عن إدمان السلطة ما يفوق نصف قرن.
A0A366A1-882C-4079-9BED-8224F52CAE91
توفيق بوعشرين

كاتب وصحفي مغربي، رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم" المغربية.