شيعية سياسية

16 ديسمبر 2016
+ الخط -
تعيدنا الذاكرة، اليوم، إلى ما كان شائعاً في مرحلةٍ تاريخية في لبنان من مصطلحاتٍ اندثرت من التداول، لأن الزمن المتغير بوتيرةٍ سريعةٍ وعنيفةٍ، والذي وُلدت فيه، لم يكن يحمل لها أسباب الديمومة. من هذه المصطلحات المارونية السياسية. وهذه لم تستطع، على الرغم من التنظيرات الأيدولوجية لها منذ الخمسينيات في ظل هيمنة الفكر القومي العربي، أن تؤسس لمشروع دائم، وذلك لأنها اعتمدت على طائفةٍ صغيرة في لبنان والمحيط، ولأن نظرية القومية اللبنانية التي نادى بها بعض مفكري الطائفة ما كان لها أن تعيش في ظل المد الناصري، كما أن فقدانها مرجعية دولية بتحالف استراتيجي كان ضرباً من المستحيل، في لعبة المصالح الدولية، فلا فرنسا ولا الولايات المتحدة الأميركية، ولا الغرب، ممن يراهنون على أقليةٍ صغيرة الحجم، وغير مؤثرة. حتى عندما أنشأت بعض قوى المارونية تحالفاً مع إسرائيل، فقد وضعت حجر الأساس لوأد مشروعها في هذا الواقع العربي المتصارع مع المشروع الإسرائيلي آنذاك.
ولذا، ومع تطورات الحرب الأهلية في لبنان، والهزيمة التي أصابت المارونية السياسية، وتفتّت الأحزاب المارونية، ورحيل قادتها اغتيالاً أو هرماً، وتشتت المصالح ضمن الطائفة نفسها، فإن المارونية السياسية اندثرت من ذاكرة لبنان. ومع التطورات الاجتماعية والاقتصادية والديمغرافية، فيما يخص لبنان، تبرز اليوم الطائفة الشيعية، لتذكّرنا في حراكها ونموها ونفوذها وتأثيراتها على مجمل جوانب الحياة اللبنانية بالمارونية السياسية. تبرز اليوم الشيعية السياسية كتلةً سياسية عظيمة القوة ومخيفة السطوة، ليس على الوضع اللبناني فقط، بل على المحيط العربي برمته. واجتمعت ظروفٌ سياسيةٌ واقتصاديةٌ واجتماعيةٌ في لبنان والمنطقة، لتجعل من الشيعية السياسية مشروعاً لا يكتفي بسيطرته على الحياة اللبنانية عموماً، وحياة الطائفة الشيعية خصوصاً، بل إن ممارسات قوى الشيعية السياسية ممثلةً أساساً بحزب الله، امتدّت لتكون جزءاً من مشروع شيعي، يشمل المنطقة العربية كلها، حيثما وجدت تجمعاتٍ شيعيةٍ أو حيث تصل الإرساليات الإيرانية، لتؤدي بالأموال خطط التشيع، كما يجري في تونس، وغيرها من الدول العربية، مستخدمة الورقة الفلسطينية والصراع مع إسرائيل غطاءً مقبولاً.
لو أجرينا مقارنةً بين المارونية السياسية والشيعية السياسية، لأدركنا مدى خطورة الشيعية السياسية على الواقع اللبناني والعربي، ولبَدَت المارونية السياسية من ضروب المراهقة الفكرية الساذجة، فالشيعية السياسية تتمتع بمرجعية فقهيةٍ وسياسيةٍ وعسكريةٍ وماليةٍ هائلة. والولي الفقيه الإيراني الذي يعتبر المرجع الديني للشيعية السياسية لم يعد مجرد مرجع ديني فقط، فهو مرجعية سياسية. وطاعة الولي الفقيه، كما هو واضح في سياسة حزب الله، ليست طاعةً فقهيةً فقط، بل سياسية ملزِمة للطائفة في كل مكان، وهذه الطاعة التي لا ينفع فيها جدل أو نقاشٌ تحتم على ممثلي الطائفة الالتزام بسياسة الولي الفقيه، كما يراها تبعاً للمصالح القومية لإيران دولةً عظمى ذات طموح للسيطرة، وليس كما تراها التجمعات الشيعية.
ومن هنا، تنذر سيطرة حزب الله على الدولة اللبنانية، وتحكمه بالحياة السياسية والاجتماعية في معظم المناطق اللبنانية، في فرض رؤيته بقوة السلاح، ونفوذه في تحديد سياسات لبنان الخارجية، وتدخله العسكري في الحرب في سورية إلى جانب النظام، من غير موافقة الأطراف المشاركة في الحكم، ودعمه الحوثيين في اليمن، والصراعات في العراق، ينذر هذا كله بعواقب وخيمة على اللبنانيين جميعاً الذين سيتحملون نتائج سياسياتٍ ناجمة من تكليف شرعي وسياسي من الولي الفقيه الإيراني، ولا مصلحة وطنية لبنانية فيها. وفوق ذلك كله، تجد الطائفة الشيعية نفسها التي شاركت ودعمت مقاومة إسرائيل، ولعبت دوراً ديمقراطياً في الصراعات الاجتماعية الداخلية ضمن القوى اليسارية، والنخب الثقافية اللبنانية، تجد نفسها تُساق إلى مشروع استعماري إيراني في سورية والعراق، وحشرها في إطار طائفي، شطب كل تاريخها الوطني والديمقراطي.
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.