"بريكست" في بريطانيا... نحو أزمة دستورية

08 نوفمبر 2016

جينا ميلر أمام المحكمة في لندن: السيادة البرلمانية (3/11/2016/Getty)

+ الخط -
لم ير المعارضون للخروج من الاتحاد الأوروبي (أو البريكست) نتيجة استفتاء يونيو/ حزيران الماضي (52%) نتيجة نهائية، بل أعلن سياسيون وناشطون ورجال أعمال عزمهم على بذل كل ما في وسعهم كي لا تتحول نتيجة الاستفتاء (الاستشاري بطبيعته وغير الملزم دستوريا) إلى قرار قابل للتنفيذ. وكان القضاء أول محطة لصد "البريكست"، فبعد أيام قليلة من الاستفتاء، أعلن أحد مكاتب المحاماة الشهيرة في لندن نيته تحدّي قرار "البريكست" عبر التوجه إلى القضاء. وبالفعل، قدم المكتب، في يوليو/ تموز، طلب مراجعة قضائي، وبعد جلسة محكمةٍ استمرت ثلاثة أيام في أكتوبر/ تشرين الأول، أصدرت المحكمة، في الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، قراراً قد يؤدي إلى إيقاف، أو على الأقل، عرقلة إجراءات الخروج من الاتحاد الأوروبي.
تمحور لب النزاع القانوني الذي بتت فيه المحكمة حول الطرف المخوّل باتخاذ القرار الرسمي بالخروج من الاتحاد الأوروبي، فالمادة 50 من معاهدة الاتحاد الأوروبي، كما تم تعديلها في معاهدة لشبونة في العام 2007، تنص على أن على الدولة العضو التي ترغب بالخروج من الاتحاد "اتخاذ قرار الخروج وفقا لمتطلباتها الدستورية"، وإعلام مجلس الاتحاد الأوروبي بهذه النية، ما يعرف بتفعيل المادة 50، بعد إعلام المجلس، تبدأ عملية مفاوضات بين الاتحاد الأوروبي وتلك الدولة سنتين قابلة للتمديد لاعتماد ترتيبات الخروج وتحديد العلاقة المستقبلية بين الاتحاد وتلك الدولة. في حالة لم يتفق الطرفان على هذه الترتيبات، تسقط عضوية الدولة بعد سنتين من إعلام المجلس بنية الخروج.
في ظل الانقسامات السياسية التي أفرزها الاستفتاء، أصبحت هوية الطرف أو الهيئة المخوّلة باتخاذ القرار الرسمي من أهم الأسئلة، فمع أن الحكومة، وأغلب وزرائها التزموا بدعم "البريكست" كسياسة حكومية، إلا أنّ هذا الموقف لا يلقى دعماً من أغلبية أعضاء البرلمان، إذا كانت السياسة الرسمية لكل الأحزاب عشية الاستفتاء، باستثناء حزب الاستقلال ( (UKIP وحزب المحافظين) كانت معارضة البريكست،عمليا، إذا كان القرار بيد البرلمان، قد يؤدي ذلك إما لعدم تفعيل المادة 50 أو فرض شروط تقيد حرية الحكومة في المفاوضات).
أصبح الصراع إذاً سياسيا بلباس قانوني /دستوري، واختبأ الطرفان خلف حجج ومبادئ
دستورية. فور صدور نتيجة الاستفتاء، أعلنت الحكومة أنه، وفقاً لمبادئ القانون الدستوري البريطاني غير المكتوب، فإنّ الحكومة، كممثلة للملكة، هي الجهة المخوّلة باتخاذ قرار الخروج، وتبليغه لمجلس الاتحاد. أسست الحكومة موقفها هذا على فرضية أن تفعيل المادة 50 خطوة على صعيد العلاقات الخارجية. ووفقا لمبادئ الدستور البريطاني، فإن تنظيم العلاقات الخارجية يقع ضمن ما تعرف بالصلاحيات الملكية، وهذه صلاحيات دستورية غير مقوننة، ولكنها متفق عليها من المحاكم، ويرجع أصلها إلى العصور الوسطى، عندما تمتع الملوك بصلاحيات شبه مطلقة، تنسب هذه الصلاحيات اسميا للملك/ ة (لكن فعليا تتولاها الحكومة أو وزراء).
تحدّى المُدّعون، في هذه القضية، وهم عدّة أطراف، أبرزهم جينا ميلر، وهي مديرة صندوق استثمارات، والمواطن الإسباني المقيم في لندن، دير دوس سانتوس، وهو مصفف الشعر، ومجموعة من المواطنين أطلقت على نفسها "تحدّي الشعب" التي جمعت نفقات القضية عبر الإنترنت، موقف الحكومة. بنى المُدّعون موقفهم على مبدأ سيادة البرلمان، وهو أهم مبدأ دستوري في بريطانيا، ترجع جذوره إلى قرارات محاكم تعود إلى العام 1610، وتشريعات سُنت في العام 1689. وفقا لهذا المبدأ، فإن البرلمان المكون من مجلس العموم ومجلس اللوردات والملك/ة) هو صاحب السيادة. وعليه، فهو الجسم الوحيد المخول بسن، تغيير التشريعات وإبطالها (أي تشريع كان، وإن كان منافيا للعقل أو الأعراف، ولا يحقّ لأي محكمةٍ أو أي حكومةٍ، إبطال إرادة البرلمان أو تجاهلها، كما تعكسها التشريعات).
وضع المُدّعون مبدأ السيادة البرلمانية في مركز القضية. كانت حجتهم الرئيسية أن بريطانيا دخلت الاتحاد الأوروبي، أو المؤسسة التي سبقت الاتحاد الأوروبي، وهي المجموعة الاقتصادية الأوروبية European Economic Community) ) قانونيا بعد سن قانون المجموعة الأوروبية في العام 1972، حيث نصّ هذا القانون على استدخال كل قوانين الاتحاد الأوروبي ومبادئه وقراراته التي كانت نافذة آنذاك، وسوف يتم تبنيها في المستقبل، بما فيها الحقوق والالتزامات والتقيدات التي تنص عليها المعاهدات. وفقا لهذا التشريع، وعملا بمبادئ قانون الاتحاد الأوروبي، تصبح هذه الالتزامات جزءاً من القانون البريطاني، وتتولى المحاكم تنفيذها كأي قانون محلي. بما أن قرار الدخول واستدخال قوانين الاتحاد الاوروبي تم بتشريع سنه البرلمان، فلا يمكن لأي جسم آخر، بمن فيهم الحكومة، ووفقاً لمبدأ سيادة البرلمان، اتخاذ القرارات التي سوف تؤدي، بالضرورة، إلى تغيير الوضع القانوني، كما نص عليه قانون المجموعة الأوروبية الذي سنه البرلمان عام 1972. تبنت المحكمة هذا الموقف بشكل كامل، وقرّرت أن البرلمان وحده من يملك هذه الصلاحيات.
من سخرية القدر أن داعمي "البريكست" الذين ادّعوا أن موقفهم الداعم للخروج من الاتحاد
الأوروبي يأتي من حرصهم على مبدأ السيادة البرلمانية، ورغبتهم بأن يكون البرلمان هو الجسم الذي يتخذ القرارات، ويسن القوانين، لا الاتحاد الأوروبي، خسروا هذه القضية، بسبب هذا المبدأ ورفض المحكمة موقفهم الذي يعطي الحكومة صلاحياتٍ ملكية واسعة. طبعا لم تقبل هذه النتيجة الحكومة التي أعلنت، بعد دقائق من صدور الحكم، نيتها الاستئناف ضده، وبسبب أهمية السؤال الدستوري في هذه القضية، فإن الاستئناف سوف يذهب مباشرةً إلى المحكمة العليا، وليس إلى محكمة الاستئناف، كما هو متبع.
توالت ردود الفعل لهذا القرار بين معارض وداعم، فبينما كال العديدون المديح لهيئة المحكمة، ولم يخفوا فرحهم بالنتيجة، هاجم وزراء عديدون وأقطاب اليمين القرار واعتبروه تدخلاً مرفوضا في السياسة. كتبت صحيفة "الديلي ميل" الهجوم الأعنف الذي وصف القضاة بأنهم "أعداء الشعب"، وطاول الحياة الشخصية للقضاة، فقد اتهمت الصحيفة رئيس هيئة القضاء بالإنحياز، لأنه أحد مؤسسي جمعية لدراسة القانون الأوروبي. وهاجمت نائبه، لأنه أول قاضٍ مثلي تم تعيينه في منصبه، وهاجمت القاضي الثالث، بسبب راتبه العالي الذي تلقاه عندما كان محامياً للحكومة.
كانت ردود الفعل هذه متوقعة، فقد أدى هذا القرار إلى إعادة ترتيب أوراق اللعبة السياسية، بما لا يتماشى مع أهواء داعمي "البريكست"، ومع أن المحكمة شدّدت مراراً على أن قرارها ليس سياسياً، بل يختص فقط بالإجراءات الصحيحة اللازمة، إلا أنه من غير الممكن تجاهل التبعات السياسية المهمة للقرار الذي يثير أسئلة مهمة عن علاقة القانون بالسياسة، وعمليات قوننة السياسة وتسييس القانون، فمع أن أغلب المحاكم في العالم تصرّ على استقلاليتها من أذرع الدولة الأخرى، وتدّعي أن قراراتها قانونية صرفة، لكن القانون نفسه منظومة قواعد ومبادئ، لها جذور وتبعات سياسية، والقضاة أنفسهم بشر لهم ميولهم السياسية ومعتقداتهم الفلسفية والدينية والأخلاقية، وعادة تعكس قراراتهم هذه الميول والمعتقدات.
يثير القرار أيضاَ أسئلة عملية ونظرية مهمة عن معنى الديمقراطية، وعلاقة الديمقراطية المباشرة (عبر الاستفتاء) والديمقراطية التمثيلية عبر البرلمان، فقد يدعي بعضهم أن احتمال تجاهل البرلمان نتيجة الاستفتاء، في جوهره، خطوة غير ديمقراطية، لأنها تستبدل إرادة الشعب، كما عبرت عنها نتيجة الاستئناف بإرادة البرلمان التي هي أقل تمثيلاً. وقد يؤدي هذا إلى إضعاف الديمقراطية، فقد يفقد عديدون مِمَن صوتوا للخروج من الاتحاد الأوروبي ثقتهم بالديمقراطية التمثيلية ومؤسساتها، إذا ما قام البرلمان بصدّ "البريكست". من جهة أخرى، يدّعى آخرون أن الاستفتاءات ليست الأداة الأمثل لقياس إرادة الشعب. فغالبا تكون على أسئلة ضيقةٍ جدا، تختزل، في طياتها أسئلةَ سياسيةً وفلسفيةً معقدة. أما الإجابات المتاحة، وهي غالباً نعم أو لا، لا تعكس بالضرورة صورة الأوضاع والتشكيلة الغنية من الأفكار التي يتبناها المواطنون. بالإضافة إلى ذلك، يسهل، في سياق الاستفتاءات، إعطاء وعود مضلّلة، كما حدث في بريطانيا، إذ لمّحت الحملة الداعمة للخروج بشدّة أنّ الخروج سوف يعني توفير 360 مليون جنيه إسترليني أسبوعياً التي سيتم تخصيصها لميزانية الخدمات الصحية المثقلة بالعجوزات المالية، لكن الحملة أسرعت بالتنصل من هذا الوعد فور إعلان النتائج.
على صعيد آخر، يضطر مصوتون عديدون إلى اتخاذ قرارات لا تعكس أفكارهم بالضرورة،
بسبب عوامل أخرى، لا صلة لها بموقفهم من السؤال الضيق المطروح، فمثلا، انقسم الناشطون والمفكرون على يسار الخارطة السياسية بين معارض للبريكست، وهم الأغلبية، و داعم له بسبب طبيعة النظام الاقتصادي للاتحاد الأوروبي الذي هو في جوهره نظام نيوليبرالي، سمي هؤلاء بجماعة الـ Lexit اختصارا left brexit، وقد صوّت كثيرون ممن يشاركون هذا الرأي لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي، خوفاً من تفشي العنصرية وتعاظم النزعات الفاشية، إن تم الخروج من الاتحاد، وهو ما جرى فعلاً في الأسابيع التي سبقت الاستفتاء وبعده.
سوف تتوجه الأنظار الآن إلى المحكمة العليا التي سوف تنظر في الاستئناف، في الأشهر المقبلة. سوف تكون لهذه المحكمة الكلمة النهائية. من المرجح أن تُسرّع المحكمة العليا النظر في هذا الاستئناف، لأهميته السياسية وتأثيره على كلّ مناحي الحياة. سوف تضغط الحكومة لصدور الحكم قبل نهاية شهر مارس/ آذار، وهو الموعد الذي أعلنت الحكومة نيتها تفعيل المادة 50، وسوف تتوجه الأنظار أيضاً إلى البرلمان، ونيات أعضائه، إذا ما جرى طرح الموضوع للتصويت، فأعضاء عديدون جاهروا بأنهم سوف يصوّتون ضد تفعيل المادة 50، بينما صرّح آخرون أنهم، وعلى الرغم من معارضتهم للبريكست، فإنهم سيصوتون مع تفعيل المادة 50 لأنهم لا يريدون أن يعارضوا "رغبة الشعب"، وعلى الأرجح أن يربط الأغلبية قرارهم بخطة الحكومة حول المفاوضات، ومرحلة ما بعد الخروج، وهي خطط ترفض الحكومة الكشف عنها، لأنّ كشفها سوف يضعف الموقف التفاوضي. وقد تؤدي هذه الانقسامات وعدم القدرة على اتخاذ قرار إلى تقديم الانتخابات التي يجب أن تُجرى في العام 2020، إذ أنّ عدم وجود أغلبية واضحة داعمة للبريكست في البرلمان، تعني أن احتمالات تفعيل المادة 50 غير مضمونة. وفي هذه الحالة، لن تجازف الحكومة بالمبادرة بطرح الموضوع للتصويت في البرلمان، إذ إن خسارة تصويت على موضوع جوهري مثل البركيست سوف تضعف الحكومة إلى درجة كبيرة جدا. في هذه الحالة، قد يكون الحل إجراء انتخاباتٍ، بهدف تغيير موازين القوى في البرلمان، وهو ما ينادي به بعض المحافظين الآن. وقد يذهب بعضهم الآخر إلى المطالبة بإجراء استفتاء آخر، لكي يكسر الجمود المحتمل في البرلمان.
بغض النظر عمّا سوف يحدث، ما تشير إليه الصورة الآن هو أنّ بريطانيا تتجه نحو أزمة سياسية ودستورية، تختلط فيها أدوار مؤسسات الدولة. من المستحيل التكهن بما سيحصل، لكن كل ما نعلمه الآن أن الأشهر المقبلة سوف تكون حبلى بالمفاجآت.
C25634CB-6FEF-4FF5-84EC-6F3091FAF153
C25634CB-6FEF-4FF5-84EC-6F3091FAF153
مازن المصري

محاضر فلسطيني في القانون- سيتي في جامعة لندن

مازن المصري