هل يهدّد ترامب الديمقراطية الأميركية؟

29 أكتوبر 2016
+ الخط -
أسئلة عديدة يطرحها المهتمون بالشأن الأميركي تتعلق بالانتخابات الرئاسية الأميركية، خصوصاً أن موعد الحسم فيها بات قريباً، إذ لا تفصلنا عنه سوى بضعة أيام. وتطاول التساؤلات الحملات الانتخابية ذاتها، والمناظرات والإجراءات والممارسات التي تحدث خلالها، بل ويمتد التساؤل ليطاول الديمقراطية الأميركية، والحلم الأميركي، والأدوار التي تؤديها الإدارات الأميركية المتعاقبة على البيت الأبيض، داخل الولايات المتحدة وخارجها. ومن أبرز التساؤلات: هل يهدد المرشح الجمهوري، دونالد ترامب، الديمقراطية الأميركية أم هو من نتاجاتها؟ وقبل ذلك، يطرح السؤال عن الحيثيات التي جعلت ترامب يعلن عدم قبوله نتيجة الانتخابات مهما كانت، ألا يدخل ذلك في سياق مسوّغات استخدام كل من ترامب والمرشحة الديمقراطية، هيلاري كلينتون، كل الوسائل المتاحة والممكنة لديهما، حتى بدت العملية الانتخابية كأنها صراع محموم، يشبه، إلى حدّ كبير، الصراع الإيديولوجي بين طرفين متناقضين، حيث وصلت حمّى المنافسة إلى حدّ جعلت كلاً منهما يستند إلى رؤيةٍ تسعى إلى الانتصار في الانتخابات بأي ثمن، من خلال النيْل من الخصم، وتسويق أن كل شيء مباحٌ أمامها، بدءاً من تناول التاريخ الشخصي للخصم، وتناول سيرته الشخصية، وصولاً إلى نبش أسراره والحفر في ماضيه، والهدف من ذلك كله إيجاد نقاط ضعفٍ، يمكن أن يستغلها الخصم ضد خصمه الآخر. وهذا يُذكّر بالحرب القذرة التي تستخدم فيها كل الوسائل، بغية الوصول إلى الانتصار المنشود.
إذاً، لجأ كل من المرشحين إلى تكنيك النيْل من الخصم، حتى ولو بالكذب والتدليس، عملاً بالمبدأ النفعي الميكافيلي، الغاية تبرر الوسيلة، وهو مبدأ لا يعترف بالمبادئ، ولا بالقيم أو الأخلاق. وعلى هذا الأساس، قادت حمى المنافسة إلى الضجة أو الزوبعة التي أثارها ترامب، بإعلانه عدم قبول نتيجة الانتخابات، في حال عدم فوزه شخصياً، ما يطرح سؤال انحطاط النموذج الديمقراطي الأميركي، التمثيلي، الذي قد يوصل شخصاً مثل دونالد ترامب (مثله الأعلى فلاديمير بوتين)، إلى سدة الرئاسة الأميركية، غير أن نموذج ترامب ليس وحيداً في العالم، لكنه الأكثر صفاقةً، مقارنةً بالنموذج الذي ينمو وينتشر بسرعة، في بلدان الاتحاد الأوروبي، حيث باتت أحزاب اليمين فيها تعتاش على خطاب العداء للآخر، وخصوصاً العربي الإسلامي، وراحت تراكم مكاسبها الانتخابية على حساب معاناته، ليبلغ هذا الخطاب ذروته في خطاب ترامب العدائي في الانتخابات الرئاسية الأميركية، بوصفه أحد رجال الأعمال الذين راكموا ثرواتٍ طائلة، جناها من مشاريع متعددة داخل الولايات المتحدة وخارجها، متستراً على سجله الضريبي.
ويقودنا هذا النموذج إلى التخوف الذي أبداه أبراهام لينكولن من "البعض" الذين سيختطفون
الجمهورية الأميركية، حين "ينتهي الأمر إلى تركّز كل الثروة في أيدي قلةٍ من المتنفذين.. وبذلك، يتحقق دمار الجمهورية"، وإلى ما يقال عن اختطاف النظام الديمقراطي الذي وضعه الآباء والأجداد والمؤسسون الأميركيون، من خلال إعادة صياغة النظام الأميركي بلغة جاهلٍ، مستعدِّ لتقديم أي مبرّراتٍ لاحتمال فشله الكبير. غير أن هذا النموذج سيحفر عميقاً في الديمقراطية التمثيلية، بعد أن تحول الحلم الأميركي إلى هوسٍ بالآخر، حيث صارت الديمقراطية الأميركية تعاني من خلل عميق، إذ خلف المظاهر الزائفة التي تبعث على الاطمئنان، مثل الانتخابات المنظمة، تمّ إفراغ الحكم من مفهومه الجوهري، وانتقلت سلطة صنع القرار من الأكثرية إلى أقليةٍ مأزومة في هويتها.
ولا شكّ في أن المشكلة الأساس في النموذج الأميركي، حيث إن أسئلةً عديدةً تطرح اليوم على الإدارات الأميركية المتعاقبة، ومدى كونها ديموقراطيةً حقاً، أم إنها إدارات بلوتوقراطية، تمثل إدارة الأثرياء، من جهة مراعاة (وخدمة) مصالح أصحاب النفوذ من الأثرياء، ومجموعات الضغط العديدة، وكبار الرأسماليين الذين يمولون الحملات الانتخابية الرئاسية، بتقديم المعونات والتبرعات السخية التي قد تصل إلى مئات ملايين الدولارات. إلى جانب تأثير آلية المجمع الانتخابي في الولايات المتحدة، على الرغم من أن الناخبين الأميركيين هم من ينتخبون الرئيس، وفق معايير خاصة، تتصل بجملة من العوامل التي تهم الناخب، وتتصل، في غالب الأحيان، بالحالة المزاجية السائدة في الوقت الراهن.
وتستند التساؤلات حول الديمقراطية التمثيلية في الولايات المتحدة الأميركية إلى معطياتٍ واعتباراتٍ عديدة، خصوصاً أن لمجموعات الضغط، أو ما تسمى اللوبيات، الأكثر قوة وتأثيراً، دورا قويا في سير الحملة الانتخابية، وفي التأثير على الناخب، إضافة إلى غياب الشفافية في طرق صنع الإدارات المنتخبة بعملية صنع القرار، بوصفها سمةً أساسيةً من سمات أي نظام ديمقراطي، الأمر الذي يعني غياب حق الشعب في معرفة الحقائق التي تبين وجاهة عملية صنع القرار، وأنه يخدم المصلحة القومية فعلاً.
ويبدو أن الديمقراطيات الليبرالية تعيد أقلمتها، في أيامنا هذه، بما يتطابق مع الحدّ من الشفافية التي تميزها عن غيرها، حيث قدمت الديمقراطيات الليبرالية في أميركا وبريطانيا وفرنسا وسواها، مشهديات إعلامية متنوعة، عملت على تشجيع الكذب والتزييف، وتستّرت على جرائم عديدة في العالم، وغيرّت وغيّبت الحقيقة عن جمهورٍ واسع، وحاولت تسويق مفردات لغة خطابها السياسي والثقافي والمجتمعي، من خلال التأثير على الرأي العام في بلادها، عبر توظيف هاجس الأمن الذي يعني أن التهديد للداخل تأتي دوماً من الخارج، أي من الآخر المختلف، مثل الحاجة إلى الشعور بالأمن في بعض المراحل، والحاجة عملت جاهدة على شيطنته، وأن ضمان الرفاهية ومستوى الخدمات الاجتماعية والصحية العالي، التي تعم بلدان الغرب، وصون المنجزات فيها، تقتضي محاربة الآخر وكرهه، بل سحقه.
5BB650EA-E08F-4F79-8739-D0B95F96F3E1
عمر كوش

كاتب وباحث سوري، من مؤلفاته "أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله"، "الامبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق".