تونس.. مشاركة الثكنات في الانتخابات

03 أكتوبر 2016

ورد للجيش التونسي في أجواء الثورة (21 يناير/2011/فرانس برس)

+ الخط -
لم يعد خافياً على الطبقة السياسية التونسية خطورة إدخال السياسة إلى الثكنات، بإقحام العسكر والأمنيين في لعبة المشاركة في الانتخابات، فقد أظهرت المناقشات والسجالات التي شهدها مجلس الشعب بشأن تحوير القانون الانتخابي التونسي، في شهر يونيو/ حزيران المنصرم، وتمكين حاملي السلاح من حق التصويت، تبايناً عميقاً في الرؤى والمواقف، واختلافاً في المبادئ والآراء، حال دون التصويت على القانون، وردّه برمتّه إلى السلطة التنفيذية، لإعادة النظر فيه، وتبديل فصوله، وتغيير محتوياته، بما يساعد على أن يقبله المجلس، أو الأغلبية. وانعكس هذا التأجيل سلباً على إجراء الانتخابات البلدية، ذات الطبيعة الحيوية، ما أدى إلى تأخيرها إلى موعدٍ غير محدد، بعد أن بُرمجت لشهر مارس/ آذار 2017، صاحبه تحوّل المسألة الانتخابية، وموقع العسكريين والأمنيين فيها، إلى قضية رأي عام، تصدّرت الصحف والجرائد اليومية، وحُبّرت حولها، في صحوة ضمير، بيانات قادة العسكر وضباطه المتقاعدين وقدمائهم، من أهل الحكمة والخبرة التاريخية، وجمعياتهم المدنية، وكثير من الشخصيات الوطنية، حاثين الحكومة، ومجلس النواب، على تفادي جرّ هذا السلك الوطني الحسّاس إلى مستنقع السياسة، وتجاذبات أحزابها، وصراعات لوبياتها.
وقد استطاع هذا الاستشعار لخطورة الموقف، وإن بدأ أقلياً في أروقة المجلس، أن يجلب إليه الأنصار، من مختلف النخب والشرائح الاجتماعية، بمسوّغاتٍ موضوعية، وحجج حقيقية، في مقارعة من أيدّ الحق في التصويت، من النقابات الأمنية، والأحزاب البرلمانية التي تنعت نفسها بالحداثية واليسارية. وهذه مفارقةٌ حقيقية، أن تدافع هذه القوى على إخراج حاملي السلاح، من عسكريين وأمنيين، عن طبيعتهم الجمهورية، وحيادهم المفروض، بواسطة دستور الجمهورية التونسية لسنة 2014، في فصليه عدد 18 و19، وذلك لضمان مدنية الدولة، وعدم السماح بعسكرتها، أو التحكّم فيها من أصحاب السلاح المنتمين إلى التشكيلات العسكرية والأمنية.
وهذا الموقف الذي يستند في ظاهره إلى خلفية حقوقية، ترى في تصويت الأمنيين والعسكريين، عنوان مواطنة، وحقاً لفئةٍ من دافعي الضرائب، لا يتمثل أصحابه الخصوصية التي تجعل من هذه الفئة مواطنين من درجةٍ خاصة، تضعهم في مكانةٍ أعلى من باقي الشرائح المجتمعية، كحماة للديار لهم شرف الذود عنها، ولا يمتلكون الوعي التاريخي، بأن حاملي السلاح المطالبين دائماً بالانضباط وتنفيذ الأوامر، كما تنصّ على ذلك قوانينهم وشرائعهم المنظمة، قد ساعدوا على بناء حياةٍ سياسية نبيلة، ذات طبيعةٍ ديمقراطية تداولية، جاءت عن طريق النضالات والتضحيات، عندما نأوا بأنفسهم عن التدخل فيها، وفي مجريات الأحداث ككل، إلا في حدود حماية البلاد والعباد، ما ساعد حركة 17 ديسمبر 2010 على النجاح في إسقاط نظام استبدادي، قاده رجل ذو خلفية عسكرية، جثم على صدور التونسيين ما يناهز ربع قرن.
ويقتضي الإقرار بحق التصويت للعسكريين والأمنيين ضرورة تمكينهم من حقهم في الانتماء الأيديولوجي والسياسي والحزبي، ومن حق الترشح، فالحقوق، كما هو معلوم في السوسيولوجيا السياسية المعاصرة، لا تتجزأ، ما سيؤدي إلى إدخال السياسة إلى الثكنات العسكرية والمراكز
الأمنية من الباب الكبير، وجعلها مواقع للحملات الانتخابية، أو في أقل الأحوال أمكنةً للسجالات والمناكفات الحزبية. ولنا أن نتمثل مشهداً يدور فيه نقاش حاد وصراع بين أنصار هذا الحزب اليميني ومؤيدي ذلك الحزب اليساري أو الليبرالي أو الإسلامي أو القومي، في الأوساط العسكرية والأمنية، حتماً ستكون نتيجته التراشق بما توفر من أسلحة خفيفةٍ وثقيلةٍ، فردية وجماعية.
وقد بيّنت التجارب المقارنة أن تمكين حملة السلاح، في المجتمعات الهشة، الحديثة العهد بالديمقراطية، أو التي تعيش انتقالاً ديمقراطياً، من المشاركة في الانتخابات، تصويتاً أو ترشحاً، قد يعود بالوبال عليها، والعراق خير مثال على ذلك، في تحزيب الفيالق والألوية العسكرية وفق الخلفيات الطائفية. بينما في التجارب الديمقراطية العريقة والمستقرّة، في البلدان الغربية التي لم تعد تعرف الانقلابات العسكرية، وتدخّل الجيوش والتشكيلات الأمنية في الحياة السياسية، فإن مشاركة العسكر ورجال الأمن في انتخاباتها لم يعد يهدّد ديمقراطيتها واستقرارها السياسي، لكنه، مع ذلك، كثيراً ما يشكّل موضوع وصم وقلق سياسي، عندما يخرج عن المألوف، مثلما الحال في الانتخابات الجهوية الفرنسية لسنة 2015 التي صوّت فيها أكثر من 51% من العسكريين والأمنيين لصالح الجبهة الوطنية، الحزب اليميني المتطرّف، مقابل 30% فقط سنة 2012، ما أثار خوف الطبقة السياسية الفرنسية وحفيظتها. أما الدرس الأهم فقد جاءنا حديثاً من تركيا، حيث أهينت المؤسسة العسكرية، ومُرّغ أنفها وكبرياؤها في التراب، بسبب اكتشاف خلايا عقائدية، وُرّطت، أو تورّطت، في المحاولة الانقلابية في شهر يوليو/ تموز 2016.
ويعتقد معتنقو فكرة تمكين الأسلاك المسلحة من التصويت أن ذلك سيعود عليهم، وعلى أحزابهم وتياراتهم، بالنفع، ضدّ خصومهم الأيديولوجيين والسياسيين الإسلاميين، وهو تصوّر هلامي لا يستند إلى قياس أو اختبار سوسيولوجي موضوعي حول نيات التصويت لدى الجيش والأمن، وإنما يرتكز على شهادةٍ قديمةٍ مضللة لرئيس حركة النهضة، راشد الغنوشي، من أن هذه الأسلاك، أي الجيش والأمن غير مضمونة، ناهيك أن هذه الشرائح غير بعيدة عن السمات العامة للتونسيين، ومنها المحافظة والتدين التي استفاد منها الإسلاميون في الانتخابات السابقة سنتي 2011 و2014.
مجلس نواب الشعب هو الجهة التي ستحسم هذا الموضوع، وتضع حدّاً للنقاشات والتجاذبات المتعلقة به، ما سيحمّل هذا المجلس المسؤولية التاريخية، في إنصاف العسكريين والأمنيين، بحمايتهم من الاستعمال السياسي البراغماتي الفئوي المحدود، والذي يريد بعضهم الزجّ بهم فيه، على حساب فعلهم الوطني النبيل الشامل الذي يسمو على التحزّب والفئوية والمصالح السياسية الضيقة. وسيكون الموقف الذي سيتخذه المجلس مؤسساً في كل الأحوال، فإما أن تكون الديمقراطية والأحزاب والتداول السلمي على السلطة في كيان مجتمعي موحّد، تنظمه دولة مدنية، أو أن تدخل السياسة الثكنات، فتخرج منها مرتديةً الزي العسكري أو البزّة الأمنية. وحينها، ستذهب النضالات التاريخية للنخب السياسية التونسية، بمختلف اتجاهاتهم، الفكرية والأيديولوجية، من أجل الدولة الديمقراطية وترسيخ وجودها، أدراج الرياح.