"حزب التوك توك"

19 أكتوبر 2016
+ الخط -
ملأت صرخة الشاب المصري سائق التوك توك دنيا المواقع الاجتماعية، وشغلت ناسها، وما زالت. فما الذي جعل صرخة هذا الشاب تلقى كل هذا الاهتمام داخل بلاده وخارجها، وتقسم الناس إلى شعوب وقبائل؟ وما الذي قاله، حتى صار حديث الساعة، وموضوع النقاشات في الشارع والمقهى، وعلى بلاتوهات القنوات الفضائية ومنصّات المواقع الاجتماعية؟
هذه الصرخة لم يبثها أحد الهواة على قناته الخاصة في "يوتيوب"، وإنما جاءت في مقطع فيديو بث على قناة خاصة موالية للنظام العسكري في مصر، في إطار برنامج يرمي إلى امتصاص غضب الشارع عن طريق "التنفيس" عن المواطن، من خلال "إفراغ" صوت احتجاجه غير السياسي، لكن الأثر الكبير، غير المتوقع، لهذه الصرخة، والذي تجاوز صداه حدود مصر، جعل أصحاب "نظرية المؤامرة" ينشطون للتصدّي لردة فعل الشارع، ووجهوا التهم الجاهزة إلى السائق الشجاع بالانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين، وكأن باقي المصريين غير المنتمين أو المتعاطفين مع هذه الجماعة راضون عن أوضاعهم الاجتماعية المأساوية التي تزداد سوءاً، يوما بعد يوم، كما أن في هذا الاتهام المجاني تبخيسٌ واحتقارٌ لأغلبية المصريين غير القادرين على الاحتجاج على أوضاعهم المأساوية، إما بسبب الخوف أو العجز، وفي الوقت نفسه، هو تحذير وترهيب لكل محتج مستقبلاً بأن تهمته جاهزة.

قوة صرخة سائق التوك توك لن يبخسها الانتماء السياسي لصاحبها كيفما كان، فهي تكمن في عفويتها وتلقائيتها وصراحتها، وقوة نفاذ كلماتها التي عرّت الواقع المصري في لحظات.. كلمات تدفقت مثل زخات أمطار عاصفية، سرعان ما كشفت عن زيف ثلاث سنوات ونصف السنة، من خطابات الكذب والمبالغات والتملق للسلطان التي دأب عليها الإعلام المصري، بعد الانقلاب على أول نظام مدني شرعي، تعرفه أرض الكنانة منذ عهد الفراعنة.
جمعت صرخة هذا الشاب المصري، بالإضافة إلى تلقائيتها وسرعة بديهة صاحبها، ما بين دقة المعلومة وحضور التاريخ وذكاء المقارنة وقوة الإقناع وسخرية المواطن المصري النفاذة.. كلمة في دقائق معدودات خرجت مثل طلقات مدفع رشاش، حطمت كل الواجهات المزيفة، وكسرت المرايا التي كانت تعكس صوراً خادعة لواقع مرير.
عكس ما قاله الشاب المصري الواقعَ المريرَ، الذي يعيش فيه المواطن المصري، ويتحمل قساوته منذ سنوات، إنه الواقع نفسه الذي جعل المصريين ينتفضون ويثورون يوم 25 يناير 2011. الواقع نفسه الذي لا يريد أن يرتفع ينيخ بؤسه بكَلْكَلِه على صدور "غلابة" المصريين.
صرخة سائق التوك توك هي صرخة كل "غلابة" مصر، وعباراته لسان حالهم، وإحساسُه هو إحساسُهم، وغضبه تعبير عن امتعاضهم، ودبدبات فورة دمه تسري في عروقهم. إنها صرخةٌ ذكيةٌ تعبر عن المشاعر المحتقنة في صدور "أيها الناس" من المقهورين والمظلومين والفقراء القابضين على جمر واقع حار، والكاظمين الغيظ والكاتمين غضبهم. إنه صوت حزب الأغلبية الصامتة، صوت "حزب التوك توك".. الحزب الذي يمتد في جميع ربوع المنطقة العربية، من خليجها إلى مغربها، إنه الحزب نفسه الذي انتمى إليه محمد البوعزيزي في تونس، والحزب نفسه الذي خرجت ثورات الربيع العربي ترفع شعاراته، من المغرب إلى البحرين، ومن درعا إلى صنعاء. شعار من ثلاث كلمات "حرية عدالة كرامة".. إنها الشعارات نفسها التي اختزلتها عبارات سائق التوك توك القوية والنفاذة.
"حزب التوك توك" هو اليوم أكبر حزب في المنطقة العربية، إنه نفسه حزب "الأغلبية الصامتة" التي قرّرت أن تكسر حائط الخوف، وتتخطى حاجز الصمت، لتخرج وتعبر عن نفسها بلغتها ومفرداتها وأسلوبها. خطورة هذا الحزب أنه لا أيديولوجية له، حزب بلا زعماء ولا قادة، إنه حزب الأفواه الجائعة والأمعاء الفارغة والكرامة المهضومة والحقوق المسلوبة. هذا الحزب هو سليل ثورات الربيع العربي، لأنه يشبهها في كونه بركاناً خامداً لا أحد يستطيع أن يتنبأ متى سينفجر.
تأتي صرخة سائق التوك توك من بعيد، إنها ترديد لصدى شعارات الربيع العربي. لكن بلغة
أهل الشارع وبشعارات "الغلابة"، وهي تعبير على أن ذلك الربيع، وإن لم تنجح ثوراته في تحقيق شعاراتها، لأسبابٍ معروفة، فهي نجحت في ما هو أهم. نجحت في إسقاط حائط الخوف العربي، فالمواطن البسيط لم يعد يقدم على إضرام النار في جسده، كنوع من التضحية والتعبير المأساوي عن حالة الضعف للاحتجاج ضد الظلم، وإنما أصبح قادراً على تحدّي الخوف الذي سكنه عقوداً، ورفع صوته عالياً للتعبير بكلمات قاسية حادة جافة مباشرة عن حالة الاحتقار التي يعاني منها.
خرجت ثورات الربيع العربي رافعة شعار الحرية أولاً، أما الثورات التي تمور اليوم في أحشاء أكثر من مجتمع عربي، فستكون ثورات جياع، وقد تتحوّل إلى فوضى واضطرابات، لأن الجوع، كما يقال، كافر يدفع المواطن إلى الكفر بكل شيء، عندما يعزّ عليه الحصول على لقمة عيشه بكرامة.
أخطر ما يقع اليوم في الشارع العربي هو فقدان المواطن الثقة في الفعل السياسي داخل المؤسسات، وفقدانه الثقة في الفاعل السياسي الممثل داخل هذه المؤسسات، رسمية كانت أو منتخبة أو حزبية، لكن هذا لا يعني نهاية السياسة، لأن المواطن عندما يحتج وينتقد ويدوّن ويغرّد فهو يمارس السياسة بمفهومها الحقيقي والنبيل، أي فعل المشاركة والتفاعل والمراقبة والنقد والاحتجاج. ووجود مثل هذا الفعل، الذي لا يكاد يخلو منه أي مجتمع عربي، يكذب كل النظريات التي تقول إن المواطن العربي ما زال لم ينضج للممارسة السياسية. وبالتالي، هو لا يستحق الديمقراطية. صرخة سائق التوك توك تكذّب كل هؤلاء، فهي أقوى من كل الخطابات السياسية السياسوية، لأنها جاءت نابعةً من الأعماق إنذاراً لما هو آت.
D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).