الانتصار في اللغة وفي السياسة

14 أكتوبر 2016

بنكيران يعلن في الرباط فوز حزبه بالانتخابات (8 أكتوبر/2016/الأناضول)

+ الخط -
عندما أنهى رئيس الحكومة المغربية المكلف، عبد الإله بنكيران، خطابه في مهرجان حزبه، العدالة والتنمية، في الرباط في 25 سبتمبر/ أيلول 2016، بمناسبة افتتاحه الحملة الانتخابية المتعلقة بمجلس النواب، لم تلتفت الصحافة كثيراً إلى حجم النشاط وهندسة "إخراجه" وبعده الجماهيري، وهو المهرجان الذي فرضت سياقات المرحلة أن يقرأ كذلك استعراضاً للقوة، خصوصاً بعد مسيرةٍ سابقةٍ في مدينة الدارالبيضاء، كانت قد نظمت تحت شعار "مواجهة أخونة الدولة والمجتمع"، وهي التظاهرة التي جسّدت أزمة خيالٍ فادحٍ، وضعفاً تنظيمياً كاريكاتورياً، وغباءً سياسياً على قدر كبير من الاحترام. عوضاً عن ذلك، كان الاهتمام قد انصبّ، بدرجةٍ أكبر، على قياس تردّد كلمة "التحكم" داخل نص الخطاب.
ولأول مرة، لم يكن الحدث "جملة صغيرة" معدة بعناية ومبثوتة داخل المتن، أو استطراداً عفوياً من لحظات الارتجال والخروج عن النص التي تحضر كثيراً في أدائه الخطابي، أو رسالة سياسية واضحة. لم يكن الحدث ما قاله بنكيران. كان غياب "كلمة" عن الخطاب.
ولم تكن الكلمة سوى "التحكّم".
بين اجتهادات الصحافة وتأويلات المتتبعين وانطباعات الرأي العام، كانت الكلمة الغائبة/ الحاضرة، الغارقة في الالتباس والغموض، قد أضحت تحمل طابعاً شبه سحري. كان كثيرون قد ربطوا بين الصوم المفاجئ عن الكلمة التي كانت قد تحوّلت إلى ما يشبه توقيعاً خاصاً للخطاب البنكيراني واللهجة التحذيرية الصارمة الواردة في بلاغ (بيان) الديوان الملكي (13 سبتمبر/ أيلول 2016) ذي الصلة بتصريحات نبيل بنعبدالله الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية الحليف "الشيوعي" لحزب العدالة والتنمية، حول (إطلاق تصريحاتٍ لا أساس لها من الصحة، واستعمال مفاهيم تسيء لسمعة الوطن، وتمسّ بحرمة ومصداقية المؤسسات). أكثر من ذلك، سمحت لغة البلاغ بالوقوف على تقاطعٍ واضحٍ مع منطوق الخطاب الملكي، بمناسبة ذكرى عيد العرش (30 يوليو/ تموز)، وهو يقف معبراً عن استغرابه من قيام بعضهم بممارساتٍ تتنافى مع مبادئ العمل السياسي وأخلاقياته، ويطلق تصريحاتٍ ومفاهيم تسيء لسمعة الوطن، وتمسّ حرمة المؤسسات ومصداقيتها، في محاولةٍ لكسب أصوات وتعاطف الناخبين. وهو التقاطع (التناصّ) الذي سمح بإعادة تفسير الجهة الموجهة إليها عبارة "التصريحات المسيئة لسمعة الوطن"، الواردة في الخطاب، بل وربط مضمونها مباشرةً بمفهوم التحكّم.
كانت، إذن، كلمة "التحكّم" قد أصبحت كلمة رجيمة، وموضوع تحفظ رسمي شبه معلن، لكنها، في الوقت نفسه، كانت قد تحوّلت إلى ما يشبه رمزاً سرياً، في لغة التواصل بين بنكيران والجمهور، رمزاً قد يحضر بالغياب، أو بالإحالة، أو بالاستعارة، أو بمجرد استحضار مفاهيم مجاورة من شبكة الكلمات التي صنعت تواطأً تواصلياً غير مسبوق بين منتج الخطاب ومتلقيه.
قبل ذلك، كانت هذه الكلمة الغامضة قد تحوّلت إلى عنوان بسيط، يختزل خطاطة قراءةٍ معينةٍ للحقل السياسي، بشكلٍ لا يبتعد كثيراً في المضمون، عما كانت قد أنتجته الحركة الوطنية، ثم اليسار، من مفاهيم، انطلاقا من القوة الثالثة (بلغة محمد عابد الجابري)، وصولاً إلى جيوب مقاومة التغيير (بلغة الوزير الأول السابق عبد الرحمن اليوسفي)، مرورا بالحزب السري (بلغة القائد الاتحادي محمد اليازغي). وهي الكلمة التي يعكس سحرها النفوذ الأيديولوجي لأصحابها، ذلك أن إنتاج المعجم السياسي، بعد أن ظل محصوراً في القيادات اليسارية، أصبح من أشكال الحضور الثقافي والسياسي للحركات الإسلامية، وهو ما يعني أنه سيبقى دائماً مسألة ذات علاقة برهانات الهيمنة الثقافية والتفوّق السياسي، خصوصاً عندما تفرض اللغة نفسها خارج عائلتها السياسية الأصلية، وتصبح جزءاً من المشترك التواصلي.
ربما هو فيكتور هيغو من قال "عندما تقع الثورات انتبهوا للمعاجم". في المغرب، لم تقع ثورة، لكننا لابد من الانتباه إلى المعجم، ذلك أن الانتصارات السياسية قبل أن تكون في الانتخابات، تكون أولاً في اللغة.
2243D0A1-6764-45AF-AEDC-DC5368AE3155
حسن طارق

كاتب وباحث مغربي