خطر الطائفية على الأمن الدولي

09 يناير 2016
+ الخط -
تحدّث صموئيل هنتنغتون، في كتابه حول صدام الحضارات، عن "الحدود الدموية" الإسلامية، قائلاً إن الإسلام في صراعات مع الغير على كل حدوده. في هذا الحكم، الصحيح جزئياً، إجحافٌ كثير في حق الإسلام. ولنعكس المنطق، ونقول إن حدود الديانات/ الكيانات الأخرى دموية أيضاً لأنها في صراعات مع الإسلام، فالتكالب الغربي على المنطقة العربية-الإسلامية، بداية من القرن التاسع عشر، لا علاقة له بالإسلام، وإنما حركته مطامع استعمارية أوروبية. "الحدود الدموية" موجودة في كل خطوط التماس الجيوسياسية عبر العالم، وإن قلت بعض الشيء في العقود الأخيرة، بغض النظر عن الانتماءات الدينية والحضارية.
وحتى وإن قبلنا بفكرة "الحدود الدموية" (للعالم الإسلامي وليس للإسلام ديانة) في صيغتها الجزئية والجزئية فقط، بالنظر إلى العلاقة المتوترة مع الآخر غير الإسلامي في بعض نقاط الاتصال في التخوم الجغرافية، فإن المشكلة تكمن، في الحقيقة، في الحدود الدموية البينية، أي داخل الدائرة الإسلامية نفسها، فالصراعات الإسلامية البينية أقوى اليوم من الصراعات الإسلامية مع الغير. فلا توجد حرب اليوم بين دول مسلمة وغير مسلمة، بينما هناك حروب بين دول إسلامية معظمها عربية، فالخلل مزودج إسلامي وعربي. والسبب طغيان المنطق الطائفي إلى درجة أن الطائفية أصبحت نهجاً سياسياً في المنطقة العربية-الإسلامية، فالحروب في سورية والعراق واليمن تجد في الطائفية وقوداً متجدداً لها. ويعود التوتر في العلاقات الخليجية-الإيرانية، والسعودية-الإيرانية تحديداً، بالأساس إلى النزعة الطائفية.
وهذا بالطبع ليس جديداً في منطقةٍ اتسمت منذ بناء الدولة الإسلامية بالصراع بين الملل والطوائف. وحتى سقوط الدولة العباسية شرقاً، والأندلس غرباً، كانت الصراعات الطائفية داخل الدولة الواحدة أو الكيان الواحد، وإن كانت هناك إمارات متناحرة بداخله. حينها كان الصراع الطائفي دلالةً على صراع سياسي بالأساس، صراع حول السلطة في الدولة المركزية. حيث كان الخصوم يمارسون السياسة تحت غطاء ديني بتوظيف الإسلام لخدمة مآربهم. وكان كل واحد يريد أن ينصب نفسه خليفة لله في الأرض بحد السيف، بتوظيف القرآن والسنة على مقاسه. فكثيرة هي النكبات والمحن التي طبعت التاريخ العربي-الإسلامي، بسبب الصراع السياسي باسم الدين والنزعة الطائفية، فالخلافة الراشدة التي سرعان ما فقدت رشدها واجهت معارضيها بخطاب ديني وطائفي، كما فعلت بعدها الدولتان، الأموية ثم العباسية.
يتكرّر المشهد اليوم. لكن، في سياق مختلف تماماً. فالصراع الطائفي، في المشرق تحديداً، يتطور في سياق نموذج "الدولة-الأمة" (وإنْ لم يستقر أمره جيداً قي المنطقة) تغيب فيه سلطة مركزية، كما كان عليه الحال في الدولة الإسلامية حتى نهاية العهد العباسي، فالدول الخليجية وإيران منخرطة، اليوم، في صراع طائفي يتعدّى حدودها. وفي الوقت نفسه، تقول بفكرة الدولة والحدود. وكأن هذه الدولة تحلم، هي الأخرى، بفكرة الخلافة التي تتجاوز الحدود والانتماءات القطرية. فهل هي محاولة بناء نوع من خلافةٍ رمزيةٍ لتقوية دعائم أنظمة منكشفة؟ الحقيقة أن دولاً لا تؤمن بفكرة المواطنة لا يمكنها أن تعامل مواطنيها إلا على أساس الانتماءات الطائفية. وبما أن النزعة الطائفية تصبح مسوغاً دينياً لقمع "الآخر" الذي تُرفض له صفة المواطنة، وقتله، فإنها تصير نهجاً سياسياً.
وخطورة الطائفية أنها تأتي على الداخل، كما تأتي على الخارج. ومن ثم، فهي التي تجعل
الحدود الداخلية دموية، أي داخل البلد الواحد بين الشيعة والسنة في السعودية والبحرين والعراق وغيرها، كما تجعل الحدود الخارجية الإسلامية البينية دموية (بين الدول الخليجية وإيران) وأيضاً الحدود العربية الداخلية والبينية، فهناك تقاطع طائفي على مستويات عدة: محلياً، عربياً بينياً وإسلامياً بينياً. وكانت هذه الصراعات الطائفية تشبه الحرب الباردة، إلا أنها، في السنوات الأخيرة، تحولت إلى حربٍ ساخنةٍ بمسارحها الثلاثة الأساسية: العراق وسورية واليمن، بلغت فيها المواجهة السنية-الشيعية أوجها، إلى درجة أن الصراع العربي-الإسرائيلي تقهقر تماماً في أوليات دول المنطقة، بل غاب تماماً من الأجندة الإقليمية، ومن اهتمامات الدول المنخرطة في صراعات طائفية بينية وإعلامها. ولولا وجود إعلام عربي غير حكومي لاختفت تغطية الأحداث في فلسطين من المشهد السياسي-الإعلامي العربي.
والغريب أن الصراعات الطائفية الرسمية تصب، في نهاية المطاف، بشكل أو بآخر، في المستنقع الطائفي الذي تغذيه داعش ونظيراتها، فالمنطقة العربية أمام نموذجين طائفيين: طائفية الدولة (العربية وإيران) وطائفية داعش ونظيراتها. وهناك ترابط بينهما، لأن الطائفية الأولى من أوجد الثانية، أو على على الأقل ساهم فيها من حيث أنها شكلت تربة خصبة لها. وحتى السنوات الأخيرة، كان المشهد الطائفي منسحباً على الاحتراب السياسي بين الأنظمة السياسية. لذا كانت مقبولة بعض الشيء دولياً، فهذه الصراعات تضعف العالم الإسلامي الشرق أوسطي، وتجعله يتخبط في نزاعاتٍ محلية وإقليمية لا نهاية لها، لكنه لا يضع مصالح القوى الكبرى والأمن الدولي على المحك. لكن، مع الحروب الطائفية الساخنة في العراق وسورية واليمن، أصبحت الحدود الدموية للإسلام الشرق أوسطي تهدد مصالح القوى الكبرى، وبالتالي الأمن الدولي.
ومن هذا المنظور، يمكن القول إن الصراع الطائفي الإسلامي البيني صار خطراً على الأمنين، الإقليمي والدولي، ليس فقط لأنه يخلق الظروف المواتية لظهور (وتغذية) فواعل عير دولتية، مثل داعش وغيرها، بل لأنه ينسف بعض المحاولات الغربية في المنطقة مثل تهدئة العلاقة مع إيران وتطبيعها. والواضح أن القوى الغربية ممتعضة من السياسة السعودية حيال إيران. فهذه القوى بحاجة إلى إيران في الملف السوري، ولضمان السير الطبيعي لتنفيذ الاتفاق النووي معها. وهي في حيرة من أمرها أمام "مثلث الموت" الطائفي الإسلامي البيني: العراق-سورية-اليمن. وهي تسعى إلى إيجاد حل سياسي في سورية وفق مصالحها، بينما الدولة العربية وإيران المنخرطة في الصراع تريد حلاً طائفياً يعيد إنتاج المشهد الطائفي لجولات صراعية مقبلة.
بالعودة إلى فكرة الحدود الدموية الإسلامية المحلية (داخل الدولة الواحدة) والبينية (بين الدول الإسلامية)، يمكن القول، إذن، إن الطائفية التي تنخر الجسد الإسلامي أصبحت، اليوم، تهديداً حقيقياً للأمن الإقليمي والدولي، جاعلة من الإسلام مشكلة بالنسبة لبقية العالم ليس لأسباب تخصه كديانة، وإنما لسلوكات بعض المسلمين، أنظمة وأفراداً.