تركيا وأميركا... العلاقات الراهنة الحرجة

28 يناير 2016

بايدن وأردوغان في إسطنبول (23 يناير/2016/الأناضول)

+ الخط -
على مدخل قصر "دولمه بهشه" في إسطنبول، العثماني التاريخي، البالغ الاحتشام والجامع ضفتي مضيق البوسفور، وقف نائب الرئيس الأميركي، جو بايدن، في زيارته التي قد تكون الأخيرة إلى تركيا، والتي يقوم بها نائباً للرئيس الأميركي، ليستمتع بجمال المنظر. لكنه، في الحقيقة، هو يشعر أنه جاء لينتقم لنفسه من الأتراك الذين لم يأخذوا، ولو مرّة، بالنصائح، أو التهديدات التي رددها على مسامعهم، طوال الأعوام القليلة الماضية، وبعد أكثر من زيارة قام بها إلى إسطنبول.
جاءت زيارات بايدن إلى تركيا كلها في أحرج الأوقات وأصعبها، سواء على صعيد العلاقات بين البلدين، أو لناحية الظروف الإقليمية والدولية التي واكبتها، وكانت تتطلب دائماً اتخاذ القرارات الثنائية المشتركة الجريئة لحماية الشراكة، لكن ما حدث كان العكس وخيبة الأمل. لماذا فشلت زيارة بايدن إلى تركيا؟ الجواب في غاية البساطة، لأنه هو من أراد إيصالها إلى هذه النتيجة، للتخلص من الضغوط والمطالب والمواقف التركية المتصلبة في وجه الإدارة الأميركية، ولأن واشنطن تفاهمت مع روسيا وإيران على تفاصيل عديدة، أولها ملفات خطط الحل أو اللاحل في سورية والعراق.

وعود بايدن
جاء بايدن يودّع الأتراك بلغة وأسلوب آخريْن، هذه المرّة، أمام المتغيرات والتحالفات الإقليمية والدولية الجديدة التي بدأت تظهر إلى العلن، فأنقرة تعرف أن بايدن هو الذي قاد مشاريع محاصرتها سياسياً وعسكرياً واقتصادياً. في منتصف السبعينيات، بعد دخولها العسكري إلى شمال الجزيرة، وتعرف أيضاً أن بايدن نفسه هو الذي وقف أمام رئيس الوزراء التركي، بولند أجاويد عام 1999، يخاطبه مهدداً "أنتم تحتاجون إلينا، وليس نحن من نحتاج إليكم. افعلوا ما نقوله في الموضوع القبرصي، وخذوا القروض التي تحتاجون إليها"، كونه الشخصية الأميركية الأهم التي سعت دائماً، ومنذ مطلع الستينيات، إلى توتير علاقات تركيا باللوبيات الأرمنية والإسرائيلية والقبرصية اليونانية، ووقف ضد مصالح أنقرة في شمال العراق، انتقاماً لخطوة ترك أميركا وحيدة في قرار الحرب على العراق عام 2003.
جاء بايدن، غير مرّة، محملاً بالوعود والتعهدات، يحذر أردوغان من لعب الورقة الخاطئة، لكن
أنقرة خيبت آماله، في السنوات الثلاث الأخيرة، عندما حافظت على علاقاتها التجارية مع إيران وروسيا، ودخلت في حوار مفتوح مع حزب العمال الكردستاني، باتجاه حل المسألة الكردية، فها هو يعود، هذه المرّة، في ظروفٍ داخليةٍ وخارجيةٍ تركيةٍ مغايرة تماماً، بهدف إنزال الضربة القاضية في مسار العلاقات التركية الأميركية، وتهديد صفحةٍ من الشراكة والتحالف الاستراتيجي الطويل.
وفيما كان رئيس الوزراء التركي، أحمد داود أوغلو، يطرح على ضيفه سؤال: هل تقبلون في واشنطن أن تلجا تنظيمات مسلحة لحفر الخنادق وإنشاء المتاريس والشروع في المقاومة المسلحة، وبناء كانتونات مستقلة في المدن، بذريعة حماية حقوقها السياسية والاجتماعية، كان الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض يردد أن بايدن والرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ناقشا سبل تعميق التعاون في الحرب ضد تنظيم داعش، وأهمية وقف تصعيد التوترات الأخيرة بين تركيا والعراق، بأسلوب يحترم سيادة العراق.
وفيما كانت واشنطن توضح أن لا عملية عسكرية تركية أميركية في سورية، كانت موسكو تعلن أنها نجحت في فرض ما تريده على الجميع، لناحية تشكيل الوفود واختيار الأسماء الذاهبة إلى جنيف الثالثة، للتفاوض في الأزمة السورية. وكانت قيادات المعارضة السورية تقول إن وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، يمارس ضغوطاً عليها، لترضى بالمطالب الروسية.

حزب العمال الكردستاني
وفي غضون دعوة بايدن الأتراك للتمييز بين حزب العمال الكردستاني الذي قبله هو منظمة إرهابية وقوات صالح مسلم الكردية التي تقاتل داعش ببسالة، وتلقى كل الدعم الأميركي، كان أوغلو يضع أمامه تقريراً أمنياً مفصلاً حول العثور على أسلحة أميركية متطورة، سلمتها وزارة الدفاع الأميركية لحزب الاتحاد الوطني الكردي في شمال سورية لمحاربة داعش، لكنه تم العثور عليها في مخابئ حزب العمال في جنوب تركيا.
أرادت أنقرة تحذيره من مخاطر الاقتراب الروسي اليومي من مناطق الحدود التركية السورية
في القامشلي، وتشجيع أكراد سورية على التمدد والانتشار في غرب الفرات، بينما هو جاء يطالب الأتراك عدم إغضاب بغداد أكثر من ذلك، وعدم الاقتراب من حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي يقترب من المنطقة الآمنة التي كانت أنقرة تريدها، وهضم التفاهم الأميركي مع روسيا في بناء قاعدتين عسكريتين في سورية، بهدف الاستعداد لمعركة داعش الكبرى، وتقبل الواقع الجديد في التقارب الأميركي الإيراني، وعدم الرهان على أي تحالف ديني، أو سياسي عسكري مع دول المنطقة، يتعارض مع حسابات أميركا ومصالحها الإقليمية. الواضح، على ضوء التصريحات والمواقف التركية والأميركية التي رافقت أجواء زيارة بايدن، ولقاءاته المنتقاة مع رموز المعارضة التركية التي أغضبت قيادات حزب العدالة والتنمية هو أن بايدن جاء ليبلغ الأتراك أن واشنطن لم تعد تبحث عن أي دور لتركيا في ملفات الأزمة السورية وخطط الحرب على داعش، ورفض تمسك الأتراك بتخلي الإدارة الأميركية عن الحليف الكردي الجديد، صالح مسلم، لأن الاصطفافات شبه واضحة، ولأن الشروط والاعتراضات التركية التي ترفعها أنقرة في وجهها كالسيف المسلط تعرقل وضع اللمسات الأخيرة على المخطط الأميركي – الروسي الإقليمي الجديد.
كان بايدن يعرف، منذ البداية، أن الأتراك لن يتراجعوا عن مواقفهم ومطالبهم، وأنهم سيخيبون أمله، ولن يضعوا بين يديه أي تعهد، أو ضمانة، أو تنازلات، ورفضهم الأخذ بنصائحه وإرشاداته، على الرغم من كل التهديد والوعيد. ولذلك، سارع إلى سحب أوراق عديدة، لوحت بها أنقرة، ومنها الإيرانية والروسية والصينية، ضده عبر الانفتاح المباشر على هذا الثلاثي، ومساومته في أكثر الملفات الإقليمية سخونة وحساسية.
حاول أن يتحدث عن تنسيق أميركي روسي عسكري في سورية، والاستعداد لحل عسكري في سورية، في حال فشل الحل السياسي، لكن البيت الأبيض سرعان ما صحح الطرح بقوله إن المسألة لا تتجاوز موضوع الحرب على داعش، ولا علاقة لها بالنظام، والتحرّك الكردي في شمال سورية. رسالته الأهم ربما كانت إبلاغه الأتراك بقرار واشنطن النهائي، لا لإرضاء أي محور إقليمي يقف في وجه واشنطن، ويحاول عرقلة سعي الدبلوماسية الأميركية إلى إنجاز تحالفها الاستراتيجي مع روسيا وإيران، وأن واشنطن لن تبذل، بعد الآن، أية جهود في محاولة تليين الموقف التركي الصلب تجاه مشاركة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، في محادثات جنيف المزمع عقدها بين نظام الأسد والمعارضة السورية. والتزام أميركا بالمشروع الروسي في شمال سورية، والذي يتلخص في سعي الروس إلى الحسم العسكري، وخصوصاً في منطقة الساحل، وفتح الطريق أمام حزب الاتحاد الديمقراطي للسيطرة على ريف حلب الشمالي بكامله، والامتداد نحو عفرين. ورفض الإدارة الأميركية أية محاولة تركية بالدخول إلى شمال غرب سورية، في حال تمكنت مليشيات صالح مسلم من التقدم، ودخول تلك المناطق التي تقطع الطريق تماماً على مشروع المنطقة الآمنة.

العراق وسورية
الحديث في العلن هو حول التنسيق وتبادل الخدمات والتفكير في استقرار العراق، وإبقاء مطلب
رحيل الأسد، هدفاً أساسياً للبلدين، لكن التحرك بعيداً عن الأضواء يتقدم باتجاه آخر غير ذلك كلياً. وتقول البيانات الرسمية إن زيارة بايدن إلى تركيا انتهت بالاتفاق على مواصلة الحوار حول أكثر من ملف عالق، لكن الحقيقة أن الجانبين غادرا طاولة المحادثات، على أن لا يعودا إليها قريباً، وقبل جلاء التحول في المواقف المتباعدة بشأن مسار الملف السوري، وتحديدا رحيل نظام بشار الأسد، والموقف من تسليح المعارضة السورية وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي والمنطقة الآمنة والتهديدات الروسية الجديدة لتركيا في المناطق الحدودية التركية السورية.
أنقرة على قناعة بأن الإدارة الأميركية رجحت بحث موضوع المرحلة الانتقالية في سورية مع موسكو وطهران، وأن واشنطن غير متحمسة لبقاء وحدات تركية في العراق، تشارك في تدريب البشمركة والتركمان والسنة هناك وتسليحهم. وهي كذلك لم تعد تبحث عن توسيع رقعة التحالف في الحرب على داعش، كما أن الاصطفافات شبه واضحة، وسيناريو الحل التركي في سورية يتعارض مع مسار المخطط الأميركي الذي لا يعرف أحد أين ومتى وكيف سيبدأ وينتهي.
خسرت تركيا رهانها على تقارب استراتيجي مع روسيا، يقلق واشنطن، ويدفعها إلى القبول بمطالبها وشروطها، بعدما تخلى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عما كان يردده قبل أشهر في أعقاب زيارته الاستراتيجية لتركيا، أنه سيبحث عن آفاق جديدة من التعاون بين البلدين، ورفع حجم التعاون التجاري من 35 مليار دولار إلى 100 مليار دولار خلال 5 سنوات، وأن خطوط الطاقة الإقليمية سيتم إعادة تحديد مسارها في إطار التحولات والتقلبات الإقليمية الجديدة، وبالتنسيق مع تركيا.
وقد أعطى هذا الأمر بايدن مزيداً من القوة، لترك أنقرة خارج حسابات واشنطن الجديدة، بعدما كان داود أوغلو يردد، من أثينا، أن أنقرة سترد على محاولات محاصرتها في مياه شرق المتوسط، وتضييق الخناق عليها، أو محاولة إشعال غاز المنطقة هناك في وجهها.
لم يأت بايدن محملاً بالوعود والتعهدات، هذه المرة، فهو جاء يقول إن تركيا ستجد صعوبة أكبر في التعامل مع المشهد الاستراتيجي الإقليمي الجديد، حيث تداخل المصالح السورية - الإيرانية الروسية وصعوبة الفصل بينها، وبين استحالة قبول واشنطن لدعم خطة تركية مضادة، تكون أصعب وأكثر تعقيداً، بينما كسب الود الروسي لإعداد خطط المواجهة المشتركة هو أسهل وأقصر وأضمن.
هو جاء يلوح أمام الأتراك أنهم أمام مرحلة محورية جديدة في علاقاتهم مع إدارة البيت الأبيض، لا تقل خطورة عن مرحلة التهديد المباشر لقلب المعادلات بأكملها في المنطقة، كما حدث مع السلطان عبد الحميد عام 1909 وأن البديل الوحيد بالنسبة لأنقرة، بعد الآن، هو الوقوف إلى جانب واشنطن في لعبة التوازنات الإقليمية الجديدة، من دون مساومات وتطويل.
وتبحث أنقرة عن أوراق تستطيع أن تضغط بها على واشنطن، والعكس أيضا صحيح. وواشنطن تتباطأ في قرار الحرب على تنظيم الدولة، وتلوح بدعم مبادرة مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، في سورية، والهدف هنا هو أن تربك أنقرة وتضيق الخناق عليها: إما أن تقبل تركيا بالخطة الأميركية، أو أن تدفع ثمن التعاون الأميركي الروسي الإيراني في الملفين العراقي والسوري.
تتقلص خيارات الأتراك وفرص المناورة تتراجع، الواحدة بعد الأخرى، بسبب السياسات الأميركية، وربما الإسراع في إزالة الألغام في الجانب التركي من الحدود مع سورية، قبل قدوم بايدن، جزء من جواب أنقرة المسبق أنها تعرف ان بايدن جاء يضع إصبع الديناميت تحت هيكل التحالف التركي الأميركي الذي شيّد بصبر وعناية منذ مطلع الخمسينيات.

4A6988D0-57AB-4CAB-9A76-07167D860E54
سمير صالحة

كاتب وباحث تركي، أستاذ جامعي في لقانون الدولي العام والعلاقات الدولية، دكتوراة في العلوم السياسية من جامعة باريس، له عدة مؤلفات.