ديدان جحا والعتمة العربية

26 يناير 2016
+ الخط -
هل يكفي أن تطفئ الضوء لتهضم القباحة؟ هذا السؤال أجاب عنه جدّنا جحا، قبل مئات السنين، بالإيجاب، حين جازف بشراء كيلوغرام من التفاح، وعاد إلى بيته، يسبقه سيل من اللعاب والأنزيمات المهيأة للطحن والبلع. لكنه حين همّ بالتهام غنيمته، اكتشف وجود دودة في التفاحة الأولى، فألقاها جانباً، ثم تكرّر الأمر مع التفاحتين الثانية فالثالثة. عندها، استبدّ به القلق، وشعر أنه سيخسر التفاح كله، ووجد نفسه أمام خيارين، إما أن يفرّط بالتفاح كاملاً، أو أن يأكله مع ديدانه، على قاعدة "دوده من عوده".
على هذه القاعدة، تعامل صاحبنا جحا، فعمد إلى إطفاء سراج غرفته، وراح يلتهم التفاح بتلذذ، من دون أن يكترث كثيراً إن كانت الديدان جزءاً من اللقمة التي يمضغها أم لا.
لا أدري، حقيقة، أي عتمة أورثنا إياها جحا، نحن الأسلاف الأوفياء لمبادئه، والتي تدفعنا إلى ابتلاع سائر أصناف القباحة، بكل هذه اللامبالاة التي بلغت حداً ربما لا يقبله جدّنا الماكر نفسه.
وإذا كان جحا قد فاز ببقايا التفاح، فنحن لم نعد نطحن غير الديدان نفسها، في خضم الظلمة الدامسة التي خيمت على الخريطة العربية المنخورة بالخراب.
غير أن الأدهى من ذلك أن يصبح إخماد السراج قراراً خارج إرادة الذين يلتهمون مصائرهم بأسنانهم، ويهضمونها برفق وانصياع، من دون أدنى احتجاج على الهاوية التي يتم اقتيادهم إليها في العتمة السادرة. وهنا، يتجاوز الأمر حدود الحيلة إلى الاحتيال نفسه.
على نحو مغاير لكل أشكال العتمة أقول إن زعماءنا هم أكثر من استفاد من رواية جحا والتفاح، وأداروها على نحو يخدم مآربهم الاستبدادية، بعد أن أطفأوا الشمس نفسها، وراحوا يحشون معتقداتهم المنخورة بديدان التخلف في أفواهنا وعقولنا معاً.
ومع هذا الحشو المتواصل، وانطفاء ضوء الحقيقة، بتنا نصدّق، مثلاً، أن (داعش) نبت شيطاني، نما خارج حديقة الورد العربية، وليست نتاج أنظمةٍ عربيةٍ تماثلها، ولشعوب فصّلت الدين وفق خرافاتها وعصبياتها وجهالاتها.
وعلى المنوال نفسه، صدّقنا في العتمة أن القُطرية أصلب من الوحدة، وجعلناها "أولاً"، وأن السلام مع إسرائيل، كفيلٌ بوضع حدّ لمعاناة المنطقة، ولم نكتشف حتى الآن أن إسرائيل كانت المستفيد الوحيد من مرحلتي الحرب والسلام معاً، بدليل أن دول السلام التي وعدتنا بقطف الثمار، استفحلت أزماتها الاقتصادية إلى حد أقرب إلى الانهيار، لولا جرعات التخدير المشروطة التي تحقن بها هذه الدول من البيت "المظلم" وصناديق النقد الدولية. ولم يعد بعيداً ذلك اليوم الذي سنصدّق فيه أن إسرائيل ستغدو دولة شقيقة.
على هذا الغرار، كذلك، ابتلعنا البساطير العسكرية التي قادت ثوراتها على فوهات المدافع، وصدّقنا أنها تحمل في أحشائها بذور الحرية والديمقراطية، ثم اكتشفنا أننا لم نضرس بين أسناننا غير ديدان الكبت والقمع ووأد الحرية.
وفي غابات الظلام، صدّقنا أن أمتنا لم تنفض عن جلدها ديدان الطائفية، فغدا الشيعي عدواً، والسنيّ غولاً، والكرديّ خائناً، والأزيديّ سبيّاً، والمسيحيّ كافراً، متناسين أن العتمة التي حشرنا بها جحا الزعيم أفقدتنا ذاكرةً غير بعيدة، امتزجت فيها كل تلك الدماء على ثرى فلسطين، وفي ساحات الثورات العربية التي تمردت على الاستعمار، ومن بعده الاستبداد.
حتى الآن، لم أزل أتحدث عن الجزء الذي وصل إلينا من قصة جحا وتفاحاته، لكني على قناعةٍ بأن ثمّة نهاية محذوفة عمداً من القصة، أعني بعد أن انتهى جحا من التهام التفاح كله، إذ لم نعرف إذا كان قد عمد إلى إشعال السراج ثانية، أم اختار أن يبقيه مطفأً إلى الأبد؟ أسأل عن ذلك، لأن ثمة حدساً ينبؤني بأن حكامنا هم من مزقوا خاتمة القصة عن عمد.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.