التقارب الإيراني- الغربي

23 يناير 2016
+ الخط -
في وقتٍ "تتصالح" فيه إيران مع القوى الغربية، عقب البدء بتطبيق الاتفاق النووي، ورفع العقوبات عليها، والإفراج عن ودائعها البنكية في الغرب، "تتوتر" فيه العلاقة بعض الشيء بين دول عربية وحلفائها الغربيين. وكثيراً ما تغنت هذه الدول العربية بعلاقاتها التحالفية التقليدية مع القوى الغربية، وأميركا تحديداً، وعملت على التناغم المستمر في سياساتها مع السياسات الغربية، خصوصاً أن أمنها القومي يستند، بالأساس، إلى المظلة الأميركية، إلا أنها تنتقد اليوم حلفاءها الغربيين، بسبب مواقفها المنتقدة إيران، كما تجلى ذلك في الأزمة السعودية-الإيرانية أخيراً.
لا جدال في أن موقع إيران في مدركات التهديد، والشواغل الأمنية في دول الخليج تحديداً، تحكمه اعتبارات محلية، إلا أن طبيعة العلاقة الخليجية-الأميركية ساهمت، وبشكل واضح، في صوغ العلاقة الخليجية-الإيرانية وصقلها، إلى درجة أنه يتعذّر تحليل الأخيرة من دون الأخذ بالاعتبار العامل الأميركي. وربما الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبته الدول المعنية هو تذويتها مدركات التهديد الأميركية، وتبنيها موقف واشنطن من طهران، ما جعلها تغفل أمراً مهماً، هو أن المصالح غير جامدة، بل تطورية، وأن المصالح السياسية لا تحكمها دائماً اعتبارات بنيوية. وعليه، ساهمت طبيعة العلاقة التحالفية الخليجية-الأميركية في تعميق الهوة بين الدول الخليجية وإيران، خصوصاً أن الأولى تعتبر الموقف الأميركي داعماً لها سياسياً، ورادعاً عسكرياً لأي تحرك إيراني حيالها. كما ساهمت هذه العلاقة التحالفية التقليدية في دفع الدول الخليجية إلى المراهنة على أزمة الملف النووي الإيراني، لإبقاء طهران تحت الضغط الغربي الدائم، بالنظر إلى حساسية الأخير، إزاء الانتشار النووي في المنطقة (باستثناء الانتشار الإسرائيلي). وهي مراهنة فيها مخاطرة سياسية كثيرة، لأن ذلك يقوم عملياً على فرضيةٍ، فحواها تدعيم العلاقة التحالفية التقليدية مع القوى الغربية من جهة، وتحجيم دور إيران في المنطقة، بالضغط عليها، وتسليط العقوبات الاقتصادية عليها. وقد تحققت هذه الفرضية، لكنها غير مستدامة، بالنظر إلى طبيعة المصالح، كما قلنا.
هكذا تجري رياح المصالح بما لا تشتهي سفن دول الخليج السياسية، حيث انقلبت المعادلة رأساً
على عقب. فإيران تتقارب مع القوى الغربية التي رفعت عنها العقوبات والحظر (باستثناء الحظر العسكري المتعلق ببعض الأسلحة، مثل الصواريخ الباليستية)، بينما هناك تنافر بين دول خليجية والولايات المتحدة تحديداً، بسبب هذه "العلاقة الجديدة" مع إيران. وهذا بحد ذاته دلالة على قصور الرؤية السياسية لدى دول الخليج، فهي لم تنجح في إدامة العلاقة "العدائية"، أو على الأقل المخاصمة بين إيران والقوى الغربية، كما لم تنجح في الحفاظ على طبيعة علاقتها التحالفية المميزة مع هذه القوى، في وقت زادت فيه الطبيعة العدائية للعلاقات الخليجية-الإيرانية، بمعنى أنها خسرت على مختلف الأصعدة.
وهذا يعني أن القوى الغربية تضع مصالحها فوق كل اعتبار، تذكيراً لمن يشك في ذلك أو لمن يفتخر بتحالفه معها، وأن حسابات الأمن العالمي (حظر الانتشار النووي)، والاعتبارات الظرفية (حاجة الغرب لإيران لتسوية الأزمة السورية)، هي الفصل، وليس اعتبارات الأمن الإقليمي من منظور خليجي. ومن ثم يمكن القول إن الدول العربية خسرت جزئياً الدول الغربية، كما خسرت إيران. وهنا، مكمن المعضلة الاستراتيجية. فالتقارب الإيراني-الغربي من جهة، والتنافر (ولو مؤقتاً) العربي-الغربي (بسبب إيران وليس إسرائيل) من جهة ثانية، دلالة إضافية على الوزن المهمل الثقل للعرب في الاستراتيجيات الإقليمية، ناهيك عن الدولية.
ومن المرجح أن التفضيلات الاستراتيجية الغربية في المنطقة تقوم، اليوم، على قناعة أن المنطقة العربية تنخرها نعرات ونزاعات وصراعات طائفية محلية، فضلاً عن البعد السني-الشيعي. وأنها أضحت خطراً على الأمن الإقليمي والدولي، ومن ثم، لا تجد القوى الغربية دولاً عربية تستند إليها. والواضح أنها لم تعد تثق، حتى في حلفائها العرب. ولا يسع أي مراقب للمنطقة إلا أن يتساءل: أين كانت إيران وأين هي اليوم؟ وأين كانت الدول العربية وأين هي اليوم؟ صحيح أن التقارب الإيراني-الغربي في بداياته فقط، ومنحاه عير مؤكد، لكن مجرد وجوده دلالة على نجاح سياسي لإيران، بغض النظر عن المكاسب الحالية والمستقبلية.
ماذا لو كانت اللعبة السياسية الإيرانية هي، منذ البداية، تسخين الملف النووي، لرفع درجة الإشعاع السياسي (وليس الإشعاع النووي الحقيقي)، للوصول إلى مآرب سياسية أخرى، والمتمثلة في إعادة توزيع الأوراق في المنطقة لصالحها، بافتكاك اعتراف غربي بموقفها وموقعها من الأمن الإقليمي، وبفك الترابط الاستراتيجي، ولو جزئياً، بين أميركا وحلفائها من العرب. فرضية يصعب فحصها، لتفنيدها أو لتأكيدها. لكن، تبقى على الرغم من ذلك واردة. وليفكر العرب ملياً في السياسة.