عن عنف السلطة المسكوت عنه

20 يناير 2016
+ الخط -
العنف فعل يستهدف كسر الآخر، وممارسة الإذعان عبر القهر. وسواءً كان العنف يتخذ شكلاً مادياً، أو نفسياً، وأياً كان مصدره، فإن القهر عنصر ملازمه، كما يرتبط العنف ببنى السلطة، فلا عنف بلا سلطة، أو محاولة لكسب سلطةٍ أو الحفاظ عليها. نستطيع القول، إن العنف عموماً، والعنف السياسي خصوصاً، هو محاولة لإخضاع المعنفين قسراً لإرادة المعنف، لتحقيق هيمنةٍ أو مصلحةٍ ما، وتلعب أنساق المجتمعات المتخلفة دوراً مؤسساً في تقوية بنى السلطة اللازمة لممارسة العنف، سواءً كان فى المجال الخاص، أو العام.
احتفل العالم، الشهر الماضي، باليوم العالمي لمناهضة العنف ضد النساء، وكذلك اليوم العالمي لحقوق الإنسان. دشنت الأمم المتحدة حملة الستة عشر يوماً لمناهضة العنف، شاركت منظمات المجتمع المدني المصري في الحملة بمئات الفعاليات. وعلى الرغم من تعددها، إلا أن أغلبها تناول الشكل المباشر للعنف الذي يمارسه الرجال ضد النساء، فى محيط الأسرة، أو ظاهرة التحرش بوصفها أحد أشكال العنف، وتم تجاهل، عن قصد أحياناً، أو لقصور الرؤية، أشكال العنف خارج المجال الخاص، ذكر عنف السلطة على استحياء، وبصوت خافت، فتجاهلت أغلب الفعاليات عنف الدولة، وأجهزتها الأمنية والسياسة.
أغلب الأطروحات التي قدمتها تلك المنظمات كانت شكلية، ومنزوعة السياق عن البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي توسع دوائر العنف، نوقشت قضية العنف، أن لها طرفين، الرجل المعنف والمرأة المعنفة، وكأن العنف ظاهرة تتشكل باختلاف النوع. وعلى الرغم من هذه الأطروحات ذات المنطق الشكلي، إلا أن أصحاب هذه الرؤية لم يطبقوا المنطق نفسه فيما تعلق بعنف "رجال الأمن" ضد "النساء" في الحراك السياسي والمجال العام عموماً. بهذا الشكل، بدت الفعاليات مكرّرة وباهتة ومتشابهة.
تناست الفعاليات أن العنف ضد النساء تتعدد مصادره، فمنها ما يصدر من المؤسسات التقليدية ذات السيادة الاجتماعية، ومنها ما يصدر من مؤسسات الدولة تحت مسمى سيادة القانون. والمفارقة أن اليوم العالمي لمناهضة العنف دشن إثر اغتيال الأخوات ميرابال اللواتي ناهضن حكم الديكتاتور العسكري رئيس الدومينيكان، رافاييل تروخيلو، المدعوم من الولايات المتحدة الأميركية .
لا تنقطع هذه الحالة التي ضربت منظمات عديدة من المجتمع المدني عمّا أصاب المجال العام
في مصر من تراجع وترهل، إذ تضيق مساحة التعبير بمن يختلفون مع السلطة، فيلجأ بعضهم إلى قول نصف الكلام، وعند مناقشة قضية العنف، يطرحها من زاويةٍ لا تكلف من يتناولها عقاب بطش السلطة أو غضبها. أرهبه بعضهم ما تبثه الدولة من تزييف للوعي، وما تمارسه من ضغوط. التزييف والترهيب يسهلان أحياناً محاولات السلطة من استيعاب المعارضين والحقوقيين والمثقفين واستمالتهم، ناهيك عن محاولات تفريق الصفوف وتشتيتها، وإجهاض أي محاولة لعمل جماعي مطالب بالتغيير ومناهض للاستبداد.
أسباب عديدة أدت إلى تجاهل عنف السلطة، منها ما يرتبط بخوف بعض المنظمات من الاتهام بدعم الإخوان المسلمين، لأن منطق مؤيدي النظام أن كل من يدافع عن المعنفات يتبنى وجهة نظرهم، وكل من يهاجم السلطة يدعم قوى الإرهاب، بقصد أو بسوء تقدير في أحسن الأحوال. وقد اختارت منظمات أخرى الصمت، لأنها ربطت موقفها الحقوقي بموقفها السياسي الرافض لحكم الإخوان المسلمين. وهذه المنظمات بموقفها هذا تسقط المبدأ الأساسي للحركة الحقوقية، وهو الدفاع عن الحقوق والحريات للجميع، من دون تمييز، حيث لا يشترط أن تتبنى وجهة نظر المعنفين سياسياً لكي تدافع عنهم، بل إن عديدين من رموز الحركة اليسارية والحقوقية في مصر وتونس، مثلاً، دافعوا عن المعتقلين الإسلاميين، على الرغم من الاختلاف السياسي بين التياريْن، المنظمات التي تختار الصمت على عنف السلطة تجاه النساء تفقد استقلاليتها وطبيعتها ووظيفتها، وتدور في فلك سلطوية النظام، تحت مسميات مقتضيات الحال والضرورة والاعتبارات الوطنية، وكأن الوطنية تتعارض مع استقلال موقفها، كمنظمات أهلية غير حكومية، مبدأها الأساسي الدفاع عن حقوق الإنسان.
قد يقول قائل إن أغلب حالات العنف تتم في المجال الخاص، لكن هذا القول لا يعني تجاهل العنف في المجال العام، كما إن أي باحث أو متابع لظاهرة العنف لا يستطيع أن ينفي أثر العنف فى المجال العام على المجتمع ككل، فتصاعد العنف السياسي يؤثر في هيمنة ثقافة العنف في المجال الخاص، وكلما كانت النظم أقل استبداداً، كانت ظواهر العنف أقل في المجالين، العام والخاص، إضافة إلى أن علاقات الهيمنة تؤثر في ظاهرة العنف، ويرتبط العنف في المجالين، الخاص والعام، بتلك العلاقات، فالمجتمعات الأبوية الطبقية الذكورية بيئة خصبة لانتشار العنف والاستبداد معاً.
تلعب المؤسسات التقليدية، مثل مؤسسة الأسرة والمؤسسة الدينية أداة لضبط أفراد المجتمع وتطويعهم للسلطة الحاكمة، وتضع تلك المؤسسات حدوداً للتعبير وللتمرد والتغيير. ومن هنا، يمكن فهم حرص السلطات المستبدة على بنية المجتمع الأبوية، وإنها لا تسعى إلى تغييرها، فالمجتمع الذي يحكم أفراده بمؤسسات الدين والأسرة والعشيرة يكون طيعاً للنظم السلطوية، ويتستر فيها الخطاب السياسي الاستبدادي خلف عبارات الأخلاق والقيم والدين. ومن هنا، لا يمكن أن نناقش قضية العنف ضد النساء، بمعزل عن دمقرطة المجتمع، وهدم أسس الاستبداد الذي يكرس لها النظام الأبوي، وضرورة مواجهة تسلط حكم القبيلة أو الحكم العسكري أو الديني، لأن الأشكال الثلاثة للحكم تلعب دوراً مركزياً في إعادة بناء الاستبداد وتدويره، وتستخدم العنف للحفاظ على علاقات الهيمنة السياسية والاقتصادية في المجتمع.
إجمالاً، لا يمكن طرح قضية العنف بمعزل عن مطالب التغيير التي رفعتها الشعوب في ثوراتها، فلا حرية وكرامة للنساء، في ظل نظم مستغلةٍ، تحرم المجتمع من فرص الحياة، ولا مساواة بين الرجال والنساء في ظل حكم الاستبداد الذي يغيب التنمية عن قصد، ويتحاشى تطوير المجتمع، ولا مساواة حقيقية ورفعاً للتمييز في ظل حكم نظم الاستبداد والنهب التي تفقر، وتقيد حرية المجتمع، رجالاً ونساء.

D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".