"نهاية التاريخ".. أو موت المُثل العليا

04 اغسطس 2015
+ الخط -
عندما اندلعت الثورات العربية حملت الجماهير على أكتافها شعارات معبرة عن طموحاتها، منها الهتافات الشهير المطالبة بـ"الحرية والكرامة". أخذ الثوار على عاتقهم مواجهة السلطة توقاً لمستقبل أفضل، خلافاً للواقع المرير الذي يعيشه المواطن العربي في بعض الأقطار. لحظات سعى خلالها الفرد للخلاص من الذل، لكن هذه الشعارات اضمحلت، مع اشتداد قمع السلطات للمتظاهرين، والذي ترافق مع بروز التنظيمات الجهادية، التي أعلنت دفن الشعارات الكبرى، والمثل العليا التي حملها الثوار "الأصليون"، بالتفتيش عن عظام "الخلافة الإسلامية"، وبعث إيديولوجية الموت في سبيل جنة "الحور العين".
مرت الفلسفة بتاريخ طويل من التحولات، حتى وصلت إلى مرحلة ما بات يعرف بالإنسانوية، فُتحت خلالها مساحة واسعة للحديث عن الوجود، حيث جرى التساؤل عن الشيء الذي يمكن أن يُعطي لحياة الإنسان معنى، أو ما هي القيم والمُثل العليا التي تجعل الإنسان يُضحّي بحياته لأجلها. ولأننا نشهد أكبر عملية تضحية بالنفس، في سبيل الإيديولوجيا، في تاريخ العرب الحديث، لا بد لنا من التفكير في هذه الأسئلة بجدية. في المجتمعات القديمة، دائماً ما عملت القوى المختلفة على استغلال الفرد، ودفعه إلى التضحية بجسده ونفسه وماله، فكان الناس يضحّون من أجل الآلهة أو الأديان التي كانت تحاط بقداسة من طبقات أو مؤسسات دينية، وكهنة نصّبوا أنفسهم سياجاً منيعاً لنقد هذه الإيديولوجيا، في مقابل وعود بالخلود في حياة مثالية مؤجلة لما بعد الموت، يتم فيها تعويض الإنسان المُضحي، بنعيم غير قابل للتخيّل، مكافأة على تحمل عناء الدنيا. لكن، كاستباق لعصر الأنوار، حصل تطور لافت، خرج ديكارت بفلسفة الشك، شكّ في جميع المسلمات التي يؤمن بها الفرد، أو ما يسميها "الصفحة البيضاء"، حيث النظر للأمور بلا موقف مسبق، سعياً منه إلى تفكيك بنى الوعي القديمة، واستبدالها بعقلانية تتيح للإنسان التفكير بحرية تامة، في نمط حياة فيها خيارات أكثر من التي حصره فيها المتدينون.

ما يحدث لدينا مشابه على مستوى استغلال الشعارات الكبرى. لكن، في الوضع العربي الراهن تبدو الأمور أعقد، لأننا نعيش في غياب كامل للاستقلال الإعلامي والأكاديمي والثقافي، وتحت تأثير إعلام منحاز لرواية محددة، ولمحور سياسي بعينه. لذا، فإن النشرات الإخبارية، والتقارير الإعلامية تشبه، إلى حدٍ ما، البيانات الحزبية. الجمهور بطبيعته لا يمحّص ما يمر عليه من تحليلات وأخبار، فهو يبحث عن المعلومة المختصرة، والمعبرة عن موقعه في الصراع، ولا يرغب في سماع تفاصيل يجدها غير ضرورية في اتخاذ مواقفه، ولأن نصف الحقيقة يصعب دحضها، كما يقول مفكّر، فإن لدى كل طرف ما يستند إليه في تدعيم انحيازاته الإيديولوجية. يحدث، أيضاً، أننا نعيش مأزقاً في التصنيف والتوصيف، في ما يتعلق بالقيم والمثل العليا التي يتنافس على تملكها كل طرف، فقيمٌ، كالديمقراطية والحرية والكرامة، غير قابلة للتملك، لكننا، في هذه المرحلة، نجد من يستسهل اختزالها في نفسه، كالحديث باسم الشعب كل الشعب، أو من يدّعي احتكار النضال من أجل الديمقراطية، من دون أن يضع محاذير أمام تعميماته، فهذه الشعوب ليست كتلة صماء، ولا تنتمي لتيار سياسي محدد، ولا لطبقة واحدة، بل هي فسيفساء قد يجتمع جزء منها، أو أغلبيتها، على مطلب محدد، في وقت محدد، وقد لا يجتمع.
يتحدث نيتشه عن "التفلسف بالمطرقة"، أي عبر سياسة هدم المثل العليا التي تدّعي الأديان والإيديولوجيات الكبرى تبريرها، وتدعي أنها تضحي بحياة الناس لتحقيقها، كما يطالب بالعودة لدراسة الجذور الخفية لهذه المثل العليا، إذا ما كانت تخفي خلفها مشاريع هيمنة مشبوهة، تسعى إلى القبض على عقول الناس ورقابهم، واستبدال نظام طاغية بآخر، لا يقل عنه طغياناً.
مرّ تاريخ الأفكار بمراحل كثيرة، قبل أن تُثبّت فكرة التشكيك في المسلمات الكبرى. اليوم، ثمّة من يعتقد أن المثل التقليدية (الدينية والأخلاقية والوطنية والثورية) فقدت بريقها، وقوّتها في الجذب، على الأقل في الدول الديمقراطية الكبرى، ومنهم الفيلسوف الفرنسي، لوك فيري، الذي يؤمن بأن الحب هو القيمة الوحيدة التي في "تزايد"، وأن ثمة عزوفا، أو عدولاً، عن التضحية بالنفس، لدواعٍ سياسية، أو في سبيل كبرى القضايا السياسية، وهو يُعطي مثالاً على تراجع المُثل في الغرب بشكل كبير، أمام بروز ما يُسميها "العائلة الحديثة". يعتقد فيري أن الإنسان على أتم الاستعداد للتضحية بنفسه، في سبيل من يُحب، وهو مستعد للبذل من أجل ضمان مستقبل زاهر لهم. لذا، يحمل التفاني في العطاء، في جوهره، حباً لمن سيخلفنا من أولاد وأقرباء. وعليه، تصنع هذه الفضيلة ( الحب) إنسانية أكثر شمولية، متجاوزة بمضامينها مرحلة الأنسنة الأولى التي عرفها الغرب، والتي شطبت أي سلطة على الفرد من خارجه، ورسخت الأنانية، بعد أن جعلت ذاته مؤلهة.
قد لا نتفق تمام الاتفاق مع المبررات التي ساقها لوك فيري لمفاعيل التضحية الحديثة. لكن، علينا، على الأقل، الحذر في التعاطي مع الشعارات السياسية الكبرى، فليس كل من يدعي الحديث باسم الديمقراطية والحرية قادرا على تطبيقها في حزبه، فضلاً عن تطبيقها داخل مؤسسات الدولة، إن هو حَكم، أو تقبل نتائجها، إذا ما أوصلت خصومه. لذا، قد يؤدي الاندفاع خلف هؤلاء وشعاراتهم، بالإنسان إلى التضحية بالغالي والنفيس في بازارٍ سياسيٍ لا يعرف خباياه.






59C609B9-D3BD-480F-B605-2AC47CF69F0B
محمد الصادق

كاتب سعودي، مؤلف كتاب "الحراك الشيعي في السعودية"