العالم مقبرة كبرى

11 اغسطس 2015

كوكب الأرض في صورة وزعتها وكالة ناسا (أ.ف.ب)

+ الخط -
"باتت قابلية البحث عن سكن في الكواكب الأخرى، داخل النظام الشمسي وخارجه، حاجة ماسّة ومستعجلة للبشرية، خصوصاً بعد أقل من قرنين، ذلك أن كوكبنا، وشيئاً فشيئاً، بات يتحوّل إلى مقبرة كبرى خانقة، وطاردة للسكن الآدمي والكائناتي على وجه العموم، براً وبحراً". هذا ما يقوله عالم البيئة الأميركي من أصل فنلندي، يوسي فان باولن. ويُذكّر بما خلاصته أن تزايد درجات التسخين الحراري لمناخ كوكب الأرض، منذ منتصف القرن العشرين، بات يُعزى إلى النشاطات البرية، بنسبة احتمال تزيد عن 93%، والحبل على الجرار، كما يقولون. 
لقد أصبح التردّي البيئي المتصاعد على مستقبل الكوكب الأزرق برمته مسألة أخطر بكثير من أن تظل محصورة في دائرة المؤتمرات العلمية العالمية، والاكتفاء بتقاريرها وبياناتها التحذيرية عبر الإعلام، ومن خلال متابعات نشاطات المنظمات البيئية الدولية، الموسمية منها والدورية. ذلك كله مهم، ولا شك، لكنه لا يكفي للتصدّي لهذه الجائحة المناخية الكبرى، ومواجهتها للتقليل من أضرارها، وإن أمكن، إيجاد الحلول الناجعة لها قبل فوات الأوان.

هكذا، إذن، فالإثبات العلمي والعملي للظاهرة بات نهائياً الآن. فسبع من العشرة مدن الأكثر تلوثاً في العالم تقع في الصين، ويموت كل عام بين 400 ألف إلى 600 ألف شخص، باضطرابات تنفسيّة متصلة بالتلوث. وكان شتاء العام 2006 الأكثر سخونة منذ 67 عاماً، حيث يتأكد الاتجاه نحو تزايد معدلات السخونة، عاماً بعد عام. وقد أدّى ارتفاع الحرارة، حسب العلماء، على هضبة "وينغهاي تيبت" إلى ذوبان الجليد، وإحداث زيادات كبيرة في كميات المياه الفائضة، أسفرت عن وقوع 438 حادثا بيئياً خطيراً، منذ العام 2005 وحتى 2014.
مع ذلك، وعلى الرغم من توقيع اتفاق الأمم المتحدة حول المناخ في ريو دي جانيرو في العام 1992، لم تشهد احتمالات المواجهة أي تطور يذكر، فمن دون خفض مهم وفعّال لانبعاثات الغاز الدفيء، ستضطر البشرية لمواجهة مزيد من الاختلالات البيئية الجسيمة، وسيتفاقم النشاط الإعصاري، وارتفاع مستوى البحار والمحيطات، وستتوالى الهواطل الثلجية والمائية في المناطق التي تتلقى الكثير منها، وإلى ندرتها في المناطق القاحلة. ووراء ظواهر الأحوال الجوية والمناخية هذه، سنشهد تأثيرات مباشرة على صحة الناس، وعلى مصادر المياه العذبة، وعلى صيد السمك الذي ستحدّ منه ارتفاعات نسبة الحموضة في مياه المحيطات. كما ستتسع وتتعمّق المناطق المصابة بالملاريا والفيروسات الغامضة والطفيليات القاتلة. وتعتبر دراسات أنه في أفق العام 2080، فإن أكثر من 3.2 مليارات شخص، ستنقصهم الموارد الطبيعية الضرورية للعيش والاستمرار.
وبغياب تخفيض الانبعاثات، الاحتمال كبير في أن ترتفع درجة تسخين الكرة الأرضية في القرن الجاري، بما يفوق الثلاث درجات. وحسب معظم الخبراء، ترتفع المخاطر البيئية والاقتصادية والبشرية الكبرى إلى ما يفوق درجتين. وفي مواجهة تغيرات سريعة جداً، لن تتمكن أنظمة طبيعية كثيرة من التكيّف مع الواقع؛ وهي مسلّمة تنطبق أيضاً على الأنظمة التقنية والبنى التحتية البشرية. وقد تكون النتائج باهظة التكلفة بالنسبة إلى الاقتصاد: التقرير الذي قدمه نيقولا ستيرن إلى الحكومة البريطانية في خريف العام 2006 يقدر أكلاف الأضرار المناخية المالية للقرنين المقبلين بحوالي 20% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي؛ وهي نسبة كبيرة، وفي الوقت نفسه، لا سبيل لمقارنتها بتكلفة السياسات المناخية التي يجب تثبيتها، والتي قدرت بحوالي 1% من الناتج المحلي الإجمالي؛ بالتالي، ليس عدم القيام بالمبادرات خياراً.
ومن أجل حصر رفع التسخين بدرجتين مئويتين، على البشرية أن تعمل على خفض نسبة انبعاثاتها من الغاز الدفيء إلى النصف، من الآن وحتى العام 2050، ما يعني إلى الثلث أو الربع بالنسبة إلى البلدان المتطورة. ويفترض أن تعمل البلدان الناشئة على استقرار انبعاثات الغاز الدفيء فيها، وهو معنى الهدف الفرنسي من "العامل 4" – فقد التزم رئيس الجمهورية في العام 2003 بخفض هذه الانبعاثات الوطنية للغاز الدفيء إلى الربع، من الآن وحتى العام 2050 – أو ما تعنيه الاستراتيجيات المماثلة للاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه. وعلى الرغم من هذه الطموحات، فإن التعبئة الدولية بعيدة عن أنها على مستوى الرهان. وعلى الرغم من ذلك، أظهر تقرير ستيرن أن المنفذ محدود: فإذا لم يبدأ المجتمع الدولي بتنفيذ استراتيجية مناخية حقيقية وشاملة، منذ الآن وحتى 2020، فقد لا نتمكّن من تجنب اختلالات خطيرة.. وخطيرة للغاية.

أما بروتوكول كيوتو الذي اعتمد في ديسمبر/كانون الأول 1997، فهو أطّر الجهد الدولي الضروري حتى العام 2012. وقد التزمت الدول الصناعية بتخفيض انبعاثاتها الغازية بمقدار 5% على الأقل، ولم يحدّد بروتوكول كيوتو أهدافاً بالنسبة إلى الدول النامية، بل ورّطها، من جانب آخر، في نظام ملائم لتمويل المشروعات و"آلية التنمية الخاصة"، فحدود هذا الاتفاق واضحة: الأهداف المحددة ضعيفة، إذ يغطي هذا الاتفاق ثلث الانبعاثات العالمية فقط؛ ولا يخضع المصدرون الأساسيون للغازات الدفيئة للالتزام، أو لم يصادقوا عليه، على غرار الولايات المتحدة. ومع ذلك، شكل الاتفاق خطوة أولى أساسية؛ وقد أتاح توقيع البروتوكول إظهار إجرائية سياسية مناخية، خصوصاً بفضل مبادرة أوروبا.
وعلى الرغم من محدوديته، والضربات التي تلقاها من الديبلوماسية الأميركية، فإن إعلان موت بروتوكول كيوتو لم يحصل، بل على العكس، أكد مؤتمرا مونريال (2005) ونيروبي (2006) إطلاق عملية عالمية لمكافحة التغيير المناخي، غير أنه، وعلى الرغم من تكوين مجموعات عمل في إطار معاهدة الأمم المتحدة حول التغير المناخي للتحضير لما بعد كيوتو، لم تقدم هذه المناقشات سوى رؤى مستقبلية دولية بعيدة. وإذا كانت أوروبا قد حدّدت لنفسها أهدافاً طموحة بتخفيض انبعاثاتها الغازية بنسبة 60 إلى 80%، من اليوم وحتى العام 2050 للحد من زيادة التسخين العالمي بدرجتين مئويتين، فإن شكوكاً عديدة ما زالت تحيط بقدرتها على تنفيذها؛ فالمشروعات الأوروبية لن تقبل اعتماد نظام وتحمّل أكلاف ترتفع نسبتها باستمرار، نسبة إلى التكلفة التي يتحملها منافسونهم.
في الولايات المتحدة، تغيّر الموقف أخيراً، في اتجاه الانخراط بمسيرة مكافحة التغيّر المناخي، والتي كانت قد انحصرت سابقاً في بعض المدن والولايات، خصوصاً كاليفورنيا؛ فها هي تحتل اليوم الواجهة على الصعيد الاتحادي العام. وناقش الأميركيون في الموضوع الملح عينه حزمة كبيرة من الاقتراحات القانونية، تطلّع أكثرها طموحاً إلى خفض الانبعاثات الغازية للبلد بنسبة 80%، وخلال مدة تصل إلى العام 2050.
وإعادة الانبعاثات الأميركية (بحسب جهات أميركية خبيرة بالشأن البيئي) إلى المستوى الذي كانت عليه في العام 1990 تعني أن الجهد للتخفيض بنسبة 30% أصبح مقبولاً من الأوساط الصناعية الأميركية التي كانت، في السابق، لا تتطلع إلا إلى ترجمة مصالحها على حساب الجميع. هل سيترجم هذا الأمر إيجاباً على الأرض، ويتمّ، استطراداً، التحوّل الكبير هنا، على الصعيدين الاقتصادي والبيئي، في الولايات المتحدة عينها؟ سؤال هو برسم كل الجهات المعنية بالبيئة، وصحة الإنسان، داخل الولايات المتحدة نفسها وخارجها. أما الباحث عن وطن فعلي لسكان الأرض على الكواكب الأخرى، فيقول يوسي فان باولن: "أرجو أن أكون مخطئاً هنا، وتترجم الإدارة الأميركية هذه (المفاجأة البيئية) على الأرض ليتلمّسها الجميع".






































A2AFC18A-C47E-45F2-A2B6-46AD641EA497
أحمد فرحات

كاتب وشاعر لبناني، عمل في عدد من الصحف اليومية اللبنانية والعربية، وفي مجلات ودوريات فكرية عربية.