معضلة مسيحيي لبنان

20 مايو 2015

جدارية في بعلبك (13أبريل/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -
حال المسيحيين اللبنانيين من حال بلدهم الذي يعتبرون أنفسهم صنّاعه. إنهم الجماعة الأكثر تأثيراً وتفاعلاً، خلال الحقبات والتغيّرات التي شهدها لبنان على مدى قرن تقريباً. ويعود هذا إلى أنهم في أساس فكرة الكيان، وتأسيس دولة "لبنان الكبير" بحدوده الحالية. عاشوا "عصره الذهبي" منذ الاستقلال عام 1943 وحتى عام 1975، تاريخ اندلاع الحرب التي خلخلت التركيبة وموازين القوى، وقضت عملياً على امتيازاتٍ عديدة، تمتعوا بها خلال ممارستهم السلطة، لأسباب منها ذاتي ومنها موضوعي.
عام 1989 تم التوصل إلى "وثيقة الوفاق الوطني"، أو ما بات يعرف بـ "اتفاق الطائف" الذي أنهى الحرب، وأسس للسلم الأهلي، انطلاقاً من مفهوم "العيش معاً" والشراكة، وأعاد تكوين السلطة على قاعدة التوازن بين السلطات، بعيداً عن الديموغرافيا وحجم الطوائف التي يكفل الدستور حقوقها ودورها. ولم يعد رئيس الجمهورية مطلق الصلاحيات، وإنما مؤتمناً على الدستور وضامناً للسلطات، ويضطلع بدور الرمز والحكم بين اللبنانيين.
وبما أنه قد أوكل تطبيق "الطائف" إلى نظام الوصاية السورية خمس عشرة سنة، فقد تم التعامل مع المسيحيين كمهزومين، ما أدى إلى تهميشهم طيلة تلك الفترة. فراح قسم منهم يتمرد على هذا الواقع، رافعاً شعار استعادة السيادة والاستقلال. وقد تصدرت هذه المعركة بعد تحرير الجنوب، في 25 مايو/أيار 2000، الكنيسة المارونية وبطريركها السابق، نصر الله صفير، الذي أطلق، في 20 سبتمبر/أيلول 2000، نداءه الشهير، مطالباً القوات السورية بالانسحاب من لبنان، والذي مهد لتأسيس "لقاء قرنة شهوان" الذي استعاد زمام المبادرة على الصعيدين، المسيحي والوطني، وشبك خيوط العلاقة مع رفيق الحريري، بهدف إعادة التواصل مع المسلمين الذين منعهم النظام السوري من ذلك.
وفي 14 فبراير/شباط 2005 أحدث اغتيال الحريري زلزالاً كبيراً ساهم في إطلاق "انتفاضة الاستقلال"، في 14 مارس/آذار 2005 التي أدت عملياً إلى تبني المسلمين الشعارات التي رفعها المسيحيون ثلاثة عقود، وتحديداً شعار "لبنان أولاً".
لذلك، إن مواقف المسيحيين، طوال الحقبة الماضية، ومشاركتهم الكثيفة والعفوية في انتفاضة 14 آذار هي التي أعادتهم إلى الخارطة السياسية وإلى دائرة القرار. وفي كل مرة كانوا ينكفئون أو يهادنون أو يساوم أحدهم على الثوابت، كما حصل مراراً إبّان زمن الوصاية، كان مصيرهم التهميش، أو الغرق في الإحباط، وهذا ما هو حاصل عملياً اليوم. فمعركة استعادة السيادة والقرار الحر لم تنته، على الرغم من انسحاب الجيش السوري، فقد اندفع بعضهم إلى التحالف مع من يقيم دويلة داخل الدولة، مثل حزب الله الغارق في أوحال سورية، دفاعاً عن بشار الأسد، وتنفيذاً لقرار إيراني. وإنجر إلى محاور إقليمية، تهدف مجدداً إلى استلاب القرار اللبناني، ومنع قيام الدولة عبر تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية، ووضع نفسه في مواجهة المجتمع الدولي وقرارات الشرعية الدولية التي تدعم الاستقلال الثاني بمجموعة قرارات أصدرها مجلس الأمن، بدءا بالقرار 1559 مروراً بالقرار 1595 الذي أطلق التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الحريري، ومهد لقيام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، انتهاء بالقرار 1701 الذي أعاد سلطة الدولة والجيش اللبناني إلى الجنوب. فكيف يتعاطى المسيحيون مع هذه الوقائع؟
بعد الخروج السوري، ساد مناخ تم ترويجه عبر تحذير المسيحيين من نية المسلمين السيطرة على الدولة والاسئثار بالسلطات، وإن المعركة، بالتالي، هي معركة حصص ووظائف ومغانم. وقد ركب زعيم التيار الوطني الحر، ميشال عون، هذه الموجة، لاعباً على عواطف المسيحيين، عشية الانتخابات النيابية عام 2005، ثم انتقل من موقعه تياراً سيادياً إلى موقع الالتحاق بخط 8 آذار الذي يقوده حزب الله الذي شكر النظام السوري على "خدماته الجلى" خلال وصايته على لبنان. وحاول عون تبرير تموضعه بالقول إنه "يشكل حماية للمسيحيين"، من دون أن يدعم هذا المحور حلم عون الدائم بالوصول إلى رئاسة الجمهورية.
مع ذلك، صعّد عون من حملته على السنّة وزعيم تيار المستقبل، سعد الحريري، ملتزماً قرار حزب الله إسقاط حكومته في نهاية عام 2010، ومتباهياً أنه "قطع له تذكرة سفر من دون رجعة". وها هو اليوم يعود مجدداً للبحث عن "حضن دافىء" لدى الحريري، لعله يحظى بدعم وصوله إلى الرئاسة. وطالما أن هذا الأمر لم يتحقق، الآن، وقد مضت على شغور موقع الرئاسة سنة، فهو مصر على تعطيل الانتخابات الرئاسية، من خلال تطيير النصاب المطلوب (88 نائباً من أصل 128) بالتكافل والتضامن مع حزب الله. إن معادلة عون هي ببساطة "إما أنا الرئيس أو لا أحد"، أي إنه يعتبر أن حقوق المسيحيين ودورهم تُختصر بشخصه، ويتهم الآخرين بالتآمر عليهم.
أما الكنيسة المارونية التي اضطلعت على الدوام بدور مفصلي على الصعيد الوطني، منذ ما قبل الاستقلال، وفي المحطات المهمة من تاريخ لبنان الحديث، فهي اليوم عالقة في "اللامكان" بعد أن خرج البطريرك الحالي، بشارة الراعي، على النهج السيادي الذي سار عليه سلفه البطريرك صفير أكثر من عقدين، وسعى إلى مغازلة محور 8 آذار والانفتاح على حزب الله، وعلى النظام السوري، في لحظة اندلاع الثورة ضده في 15 مارس/آذار 2011. وراح يتقلب في مواقفه ذات اليمين وذات الشمال، إلى أن شغر القصر الجمهوري، فبدأ رفع الصوت مطالباً بانتخاب رئيس جديد في الموقع المسيحي الأول في الدولة اللبنانية، فلم يجد لا عون ولا أحداً من حلفائه إلى جانبه، على الرغم من وعودٍ قطعوها له. وفي يونيو/حزيران الماضي، شنّوا عليه حملة شعواء، لامست حد اتهامه بالعمالة، لأنه قرر مواكبة رئيس كنيسته بابا روما في زيارته الأراضي المقدسة، وتفقد رعيته المارونية هناك.
في المقابل، لا يبدو أن لدى مسيحيي 14 آذار (حزبا "القوات اللبنانية" و"الكتائب" والمستقلون) مشروعاً واضحاً ومقنعاً. فهل إن وقوفهم في المعسكر الاستقلالي يعفيهم من لعب دور ريادي، خصوصاً في هذا الظرف المفصلي، وسط كل ما يجري من تغييرات جذرية وتفاعلات على صعيد المشهد العربي؟ أم إن الأهم هو التنافس على الساحة المسيحية. وهل المطلوب رئيس صوري لدولة مشلعة الأطراف وسليبة القرار؟
وإذا كانت لحزب الله وحلفائه "مظلة إقليمية" تحميهم، فهل من خيار للمسيحيين خارج الدولة؟ إنهم لم يدركوا بعد أنه لم يعد هناك من "طائفة مميزة" لدى الخارج، وإن الهم المسيحي لا يمكن أن يكون ذاتياً أو فئوياً، دورهم ليس في "الالتحاق" بالشيعة أو بالسنّة، وليس، في الوقت عينه، بالوقوف على الحياد، بل في دور مركزي وجامع لكل اللبنانيين، عبر السعي إلى إعادة بناء الدولة.
5231ACF6-F862-4372-9158-B1655EE52A60
سعد كيوان

صحافي وكاتب لبناني، عمل في عدة صحف لبنانية وعربية وأجنبية.