السيادة الوطنية عربياً

07 ابريل 2015

شعار في تظاهرة في القاهرة (1يونيو/2005/Getty)

+ الخط -

تمثل فكرة السيادة الوطنية إشكالا في التاريخ العربي الحديث، وبعد الانفجار التاريخي العربي في 2011، باتت تحتاج إلى دراسات وتنظير جديد ومعاصر، يقدم مقاربات لحل إشكالها المعقد.

كان العالم الثالث، وفي طليعته العالم العربي، ولا يزال، مجالا للإمبريالية، بل إن آخر الجيوب الاستعمارية، ممثلاً في الاحتلال الإسرائيلي، يقع في قلب العالم العربي. ومثل أغلب المجتمعات التي انتقلت إلى مرحلة دولة الاستقلال، مثلت السيادة الوطنية، تحت ضغط الجروح والتضحيات الجسام، القيمة العليا في الوعي الجمعي، غداة انحسار القوى الإمبريالية التقليدية وتصفية الاستعمار والبدء في بناء الدولة الوطنية. لكنّ الأنظمة العربية، وجزءا كبيرا من النخبة، لم تحدث ربطا بين مفهومي السيادة الوطنية وكرامة المواطن، عبر فكرتي الديمقراطية والمواطنة. أي أن مفهوم السيادة الوطنية كرس، بإطلاق سطحي، وبغير أي متلازماتٍ تعطيه اتساقا أخلاقياً. وهذا ما نسميه إشكالية السيادة الوطنية عربياً.

استثمرت الديكتاتوريات العربية التوق الجمعي إلى السيادة الوطنية، في تكريس إشكاليته، وظهر مثقفون عرب مؤدلجون، نظّروا للأمة والسيادة الوطنية ومقارعة الإمبريالية، بالتوازي مع انتفاء "المواطن" في وعيهم، وتحملت المجتمعات العربية هذا الاستغلال، مع بداية المد القومي الذي سمح صدقه الأيديولوجي، حينها، للمجتمعات بالتغافل عن القمع الداخلي واستغلال حاجاتها النفسية.

مع انحسار المد القومي وتحلل الأيديولوجيا، بدأ الإشكال المستعصي في الطفو، حيث اتضح أن الأنظمة العربية استغلت فكرة السيادة للقمع و"نزع" السيادة عن المواطن، بل وجعلت دولها مستباحة، فلم تحفظ حتى سيادتها، ولم تحرر فلسطين، الجرح النازف الذي يذكّر كل عربي بأنه بلا سيادة وطنية. وفي عام 2011، تفجر الإشكال، ونتذكر أن الثورة المصرية بدأت يوم عيد الشرطة، جهاز القمع والإذلال، ثم جاءت الثورة الليبية لتطرح الإشكال براديكالية: التدخل الخارجي أو عصابات القذافي.

مع الثورات العربية، وخصوصاً الليبية والسورية، اقتنعت قطاعات مجتمعية بأن هناك فعلا "استعمارا داخليا"، وأن المستعمر الذي يرتكب الإبادة الجماعية واغتصاب النساء وتعذيب الآلاف ورمي البراميل المتفجرة، قد يكون محلياً، وأن الغربي الإمبريالي والإسرائيلي لا يحتكران هذه الممارسات.

من المهم القول، هنا، إن استغلال الاستعمار الداخلي (الأنظمة العربية وجماعاتها المتحالفة معها) لفكرة السيادة الوطنية كان يتكئ على مفاهيم مكرسة في الثقافة الشعبية العربية، بما هي ثقافة ذات بنية قبلية، تعلي من قيمة رابطة الدم، وتشتق منها قيماً كثيراً، بل وتفاضل بين اللاأخلاقيات من خلالها. فأفكار وأمثال على وزن "أنا وابن عمي على الغريب" تتكرر بكثرة في سياق نقاشات السيادة الوطنية والاستعمار الداخلي، كما هو حاصل، الآن، في النقاشات حول التدخل العسكري السعودي/العربي في اليمن، ففي حين تضرب المقاتلات الخليجية الأراضي اليمنية، وضحاياها في تزايد، تدك الحركة الحوثية وإقطاعيات الجيش الموالية للرئيس السابق، علي عبدالله صالح، مدينتي عدن والضالع. وتتحدث التقارير والشهادات عن ضرب بالمدفعية لأحياء سكنية، بغية إخضاع المدينتين وإحكام السيطرة عليهما.

وتعد هذه الممارسات تمثيلا لفكرة الاستعمار الداخلي، لكنها تعيد طرح إشكال السيادة الوطنية التاريخي، وصلابة الثقافة الشعبية، في نظرتها الأخلاقية التي تجيد التفريق بين قتل وقتل، وبين إذلال الغريب وإذلال طرف محلي، مع الحساسية الشديدة تجاه قيمة كبرى، كالسيادة الوطنية. وكل هذا يتركز في حالة فصام حقيقي في السيكولوجيا الجمعية، خصوصاً أن الحلف الذي يضرب اليمن، الآن، ليس ديمقراطياً ذا أفق قومي، بل إنه تاريخياً المعرقل الرئيس للمشروع القومي العربي، وأن هذه الحملة تقع ضمن لعبة الأمم وصراعات الإقليم، بالإضافة إلى الحزازات التاريخية التي تحفظها ذاكرة اليمنيين.

إشكالية السيادة الوطنية عربيا أنها لم تكن فعلاً ذاتياً، بل رد فعل راديكالي على الاستعمار والإمبريالية التي أذلت المجتمعات عقوداً طويلة. ويكفي أن نقول، هنا، تدليلاً على عمق هذا الموضوع وحساسيته عربياً، أن أهم ثورات الخمسينيات كانت رد فعل على نكبة فلسطين، بما هي جرح للكرامة الجمعية والسيادة.

لا خلاص إلا بربط عضوي بين السيادة الوطنية وسيادة المواطن، من خلال الديمقراطية والمواطنة والعدالة الاجتماعية، يعترف بوجود استعمار داخلي بغيض وقوى خارجية لا تمانع من عقد صفقات مع هذا الاستعمار على حسابنا، ولا يبرر إذلالاً بإذلال، ويستبطن فكرة أن سيادة المواطن هي ضامن سيادة الوطن، ويشتق كلا السيادتين من القيم نفسها: الحرية والكرامة والعدالة.

8AC1ED65-78A2-4712-AD9B-FBCD829DA394
أيمن نبيل

كاتب يمني، من مواليد 1991، يقيم في ألمانيا لدراسة الفيزياء النظرية. نشر عدة مقالات في السياسة والاجتماع والثقافة والفنون، في عدة صحف يمنية.