كوبا وأميركا من خليج الخنازير إلى سياسة أوباما الخارجية

22 ابريل 2015

أوباما وراؤول كاسترو في لقائهما في بنما (إبريل/ 2015/أ.ف.ب)

+ الخط -
وجد الرئيس الكوبي السابق، فيديل كاسترو، في بداية التسعينيات وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، صعوبة كبيرة في تدبير شؤون مواطنيه. وفي المقابل، فضّل أن يرابط في الخندق الإيديولوجي الذي دافع عنه، واقتنع به. وعلى الرغم من المعاناة وقلة الإمكانات، ومهما كان الثمن السياسي، استطاع أن يصمد إلى أن تعافى الاقتصاد الكوبي، وخرج من دائرة الخطر والبؤس.
ألقى كاسترو، الذي اشتهر بطول خطبه، خطاباً من خمس ساعات، وهو في الثمانين من عمره، في إحدى الجامعات، وظل يناقش مع الطلبة حتى مطلع الفجر، علما أن وضعه الصحي كان آخذا في التدهور، وخطب كاسترو ذكية، لكنها أحيانا تكون غير منسجمة. وفي نقاشه مع الطلبة، طرح ما ستؤول إليه كوبا عند رحيله، قال كاسترو "عندما سيشرع القدماء في الرحيل، ويتعين تعويضهم بجيل جديد من القادة، ماذا يمكن أن يحدث". وتساءل: هل يمكن أن نتصور أن المسلسل الثوري سيتم التراجع عنه؟ وأضاف أنه مع احتمال أن الثورة ستُحارب من الخارج، فإنه لم يستبعد، شخصياً، أن تدمر البلاد وتخرب، لكن الجيل الجديد هو من سيحمي الثورة من الانهيار والانتكاس، معترفاً بأن سنوات حكمه وممارسته السلطة لم تكن دائماً سليمة وخالية من الأخطاء.
كوبا التي كانت تنتج ثمانية ملايين طن من السكر غيّرت من توجهاتها الصناعية، ولم تعد تنتج أكثر من مليون طن من مادة السكر في السنة، أي ما يكفي لسد الطلب الداخلي، وأصبحت مداخيلها الأساسية، اليوم، من السياحة وتصدير الأطباء والمدربين الرياضيين إلى فنزويلا، إلى درجة أنه لا يخلو مستشفى برازيلي من طبيب يحمل الجنسية الكوبية.
وقد حارب كاسترو الفروق في الأجور، وأنحى باللائمة على من سماهم الأغنياء الجدد الذين يتلقون الدولارات من ميامي، أو الحصول عليها من الأنشطة السياحية، وهي أجور تفوق عدة مرات أجرة طبيبٍ، أو رجل تعليم، غير أنه، في الواقع، كان اقتصاديون يعرفون ما كان يحدث، فما كان ينقصهم هو صحافة حرة لتقديم خلاصاتهم وتحليلاتهم لمواطنيهم، غير أن النقاش العمومي حول الاستراتيجيات الاقتصادية للبلاد غير ممكن وممنوع.
وعلى الرغم من اشتغال الآلة الإيديولوجية بشكل دائم وحيوي، وتقديم الدولة فاعلاً مركزياً، واتخاذ كل الإجراءات لتنظيف المجتمع وتطهيره من الآفات الاجتماعية، فإن الرشوة والسوق السوداء وجدتا موطئ قدم لهما في المجتمع الكوبي، وهذا ما بات يشكل خطراً على الاقتصاد الكوبي الذي تتحكم فيه الدولة.
كانت كوبا تبدو جنة مطلقة لكل الحالمين بالثورات والاشتراكية، فالمجانية تشمل أهم القطاعات الاستراتيجية، كالصحة والتعليم والسكن والكهرباء والمواد الغذائية. ويبدو أن كاسترو الذي عوضه شقيقه، أصبح ينتمي إلى زمن موغل في الماضي. إنه أحد الديناصورات الثائرة في المرحلة الشيوعية، كما أطلق عليه ذلك الصحافي البريطاني، ريتشارد غوت، مؤلف كتاب "كوبا.. تاريخ جديد".
والمتغير في هذا التاريخ الجديد، بعد عزلة وتقوقع داما عقوداً، أن كوبا أدركت أنّ من مصلحتها ربط علاقات دبلوماسية وتجارية مع عدد من دول أميركا اللاتينية، وهو ما كان خارج أي تفكير رسمي في كوبا، منذ أزيد من 50 عاماً، وتعتبر شعوب أميركا اللاتينية وقادتها الحاليون كاسترو، من الشخصيات الأكثر شعبية واحتراماً، بل من أهم شخصيات القرن العشرين. وهذا ربما ما شجع الرئيس الأميركي، باراك أوباما، قبل مغادرته البيت الأبيض بسنتين، على التمسك بأمل ترك بصمة لافتة على الساحة السياسية الدولية، فقد أعاد ربط العلاقة بين بلاده وعدوّين تاريخيين وأساسيين، إيران وكوبا. ووسط تدافع الأحداث، نحت أوباما مذهبا جديدا للدبلوماسية، يتأسس على انفتاح مدروس ومحسوب، مع الحفاظ على قدرات واشنطن، وقد قال أمام الرئيس الكوبي راؤول كاسترو، "بعد 50 سنة، بدون إحداث أي تغيير في السياسة الأميركية، فكرت أن الوقت حان لمحاولة تجريب شيء آخر"، مضيفا أن واشنطن ستواصل التأكيد على الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. في إشارة إلى ضرورة اتخاذ هافانا تدابير ملموسة في هذا الاتجاه، وهي التي عادة ما تتهمها واشنطن بقمعها الحريات وانتهاكها حقوق الإنسان وحرية التعبير والتفكير والرأي والمعتقد.
 
فوجئ الذين ينشغلون بالبحث عن ملامح مذهب أوباما وتجلياته في السياسة الخارجية، يوم 5 أبريل/ نيسان الجاري، بردّه على سؤال توماس فريدمان في مقابلة نشرتها صحيفة نيويورك تايمز، أياما قليلة قبل محادثاته مع الرئيس الكوبي على هامش القمة السابعة للأميركيتين وبنما، عندما قال "أكيد، ستظل هناك خلافات بين البلدين". وكان لافتا إلقاء راؤول كاسترو خطابا مثيراً لم يخل من جاذبية واعتدال ومرونة وذكاء، حيث أكد على انشغال كوبا بالتوجه الجديد للسياسة الخارجية الأميركية، معتبرا أن كل شيء قابل للنقاش، إذا تم في إطار احترام أفكار الآخر.
ما أنجزه أوباما في أجلٍ لا يتعدى أسبوعاً بلغة الأرقام نتيجة طبيعية وواضحة لسياسةٍ، تم الالتزام بها قبل انتخابه، وتم تحديد خطوطها العريضة في الكابيتول يوم 21 يناير/كانون الثاني 2009، عندما وعد، في أول خطاب في حفل تنصيبه، بمد اليد إلى من سيكون مستعداً للتخلي عن المواقف والممارسات التي تهدد الأمن والسلام العالميين والمصالح الأميركية.
وتعتبر الواقعية الجديدة في مذهب أوباما الدبلوماسي، أو البراغماتية المثالية، والتي تعد، حسب مجموعة من الجيو استراتيجيين، المدخل الطبيعي إلى آسيا، وإن كان هذا التوجه لم يحقق، حتى الآن، نتائج كبيرة، باستثناء إنجازات طفيفة في مجال حقوق الإنسان.
في الحوار المطول مع توماس فريدمان، تحدث أوباما، أول مرة، عن مفهوم مذهب في السياسة الخارجية، مع حرصه على القول إنه "على الرغم من الإرهاب والهجمات المنظمة التي تستهدف المصالح والأمن الأميركيين، فإن السطوة الأميركية مازالت كما كانت، ولن تفقد شيئاً إن مدت واشنطن اليد إلى أعدائها. وبامتلاكها القوة الضاربة، فإن في وسع الولايات المتحدة تجشم بعض المخاطر. ولكن، بكيفية محسوبةٍ بشكل جيد". ولتعزيز مصداقية مذهبه، يرى أوباما أن كوبا لم تعد تشكل أي خطورة، مقتنعاً بأن تجريب سياسة الانفتاح تجاهها يمكن أن يؤدي إلى تحسين أوضاع شعبها، فكوبا، حسب رأيه، بلد صغير، "ولا يهدد مصالحنا الأساسية". ينسحب الأمر نفسه على إيران التي تخصص 30 مليار دولار للموازنة العسكرية في مقابل 600 مليار دولار تخصصها الولايات المتحدة الأميركية، و"تدرك إيران أنها لا يمكن أن تحاربنا". ولم يكن أحد كتاب افتتاحيات يومية "وول ستريت جورنال" مخطئاً، عندما لخص مذهب أوباما في السياسة الخارجية كما يلي، "تحدث بصوت هادئ، واحمل في يدك عصا. لكن، من دون وجود نية في استعمالها".
للوهلة الأولى، قد يبدو الأمر سهلا وسلسا بالنسبة لاستئناف العلاقة مع كوبا، خلافًا لتدبير العلاقة مع إيران، لأنه يتعين على أوباما أن يقنع الكونغرس بالأخيرة، وأن يرضي إسرائيل، وهما عائقان أساسيان، خصوصاً أن "المساس بأمن إسرائيل خط أحمر لا يمكن الاقتراب منه"، على ما أكد أوباما مرات، من دون الحديث عن طمأنة الحلفاء التقليديين من أهل السنة في الشرق الأوسط، علاوة على أن الجمهوريين، وخصوصاً معسكر الصقور، قد يرون في سياسة الانفتاح على أعداء الأمس التي بات ينهجها أوباما نوعاً من الضعف، علما أن الكونغرس يطالب بحقه في النظر في مضمون أي اتفاق مع إيران في ما يتعلق بالملف النووي.
روى صحافي مغربي، تابع أشغال قمة الـ77 في هافانا عام 2000، أن الرئيس الكوبي التاريخي، فيديل كاسترو، كان ينتظر الأمين العام آنذاك للأمم المتحدة، كوفي أنان، حيث كان سيلقي محاضرة في جامعة هافانا. وقبل وصول أنان إلى المكان، تحلق الطلبة حول كاسترو وراح يخطب فيهم. وبدافع الفضول، توجه الصحافي صوب ذلك التجمع، فذهل لما وجد كاسترو غارقاً في النقاش مع الطلبة، فأصر على الاقتراب منه، لاقتناعه بأن تلك اللحظة فرصة لأخذ تصريح من قائد ثائر اقترن برفيقه في الثورة، تشي غيفارا. وعندما طرح عليه سؤالاً عن أجندة القمة، والقرارات التي ستخرج بها، طلب كاسترو من الصحافي تحديد هويته، ولما عرف أنه من المغرب، سأله: أين اليوسفي؟ فرد زميلنا بأنه في المغرب. ويستشف من سؤال كاسترو بشأن عدم حضور عبد الرحمن اليوسفي قمة هافانا، وكان وزيراً أول في المغرب، التقدير الذي كان يخص به رموز اليسار في العالم الثالث، خصوصاً في مرحلة احتدت فيها الحرب الباردة. كما أن السؤال استحضر في ذهن كاسترو اسم الزعيم اليساري المغربي، المهدي بن بركة، الذي كانت تجمعه علاقة تنظيمية وفكرية وإنسانية باليوسفي، وكأن السؤال عن اليوسفي تحديداً أراد كاسترو منه استحضار روح بن بركة الذي اختطف في باريس في أكتوبر/تشرين الأول 1965عندما كان يهيئ لانعقاد مؤتمر القارات الثلاث في هافانا، بين 3 و13 يناير/كانون الثاني 1966.
وهناك من اعتبر أن السبب العميق وراء اختطاف بن بركة واغتياله تلك الانطلاقة الثورية لمؤتمر القارات الثلاث، سنوات قليلة بعد فشل عملية خليج الخنازير في كوبا التي أمر بها الرئيس الأميركي، جون كينيدي، لإسقاط فيديل كاسترو، غير أن الأخير رفع التحدي في وجه الولايات المتحدة، وأعلن في خطاب من هافانا في 16 أبريل/نيسان 1961 "أنّ الأفكار الاشتراكية هي الأفكار الثورية في حقبتنا التاريخية الراهنة". وقررت واشنطن، تبعا لذلك، فرض الحصار على كوبا، والذي دام أكثر من نصف قرن، فاقتربت هافانا من موسكو. وكادت أزمة الصواريخ التي نصبتها موسكو في الجزيرة أن تؤدي بالكتلتيْن إلى حافة المواجهة العسكرية في فبراير/شباط 1962، حيث طُردت كوبا من منظمة الدول الأميركية، فردّ كاسترو بالطلب "من الشعوب بالتحرّك". وكان هذا هدف مؤتمر القارات الثلاث. لكن، يظهر، الآن، أن الانتقال في كوبا أصبح حتمياً. وسيصبح أكثر من نصف قرن من الحصار والعزلة والتقوقع واليوتوبيا الاقتصادية والطهر الإيديولوجي، مجرد ذكريات ونوستالجيا للأحياء من ثوار الأمس ورومانسيي اليوم.