توابيت أقل.. على الأقل

30 ديسمبر 2015
+ الخط -
وكعادتي كل عام تقريبا، لا أتمنى من العام الجديد سوى توابيت أقل.. على الأقل. لكنها أمنية سنوية مكرّرة، أتمناها مع بداية العام، ثم أكتشف، في نهايته، أنها بقيت عصية على التحقق مجدداً، فالتوابيت تزايدت. وفي حالات كثيرة، أصبحت التوابيت نفسها أمنية لجثثٍ تموت بلا توابيت، ولا شواهد قبور، بل وبلا قبور أيضاً.

والموت المجاني الاستثنائي خارج إطار المعتاد صار السمة الأوضح  لكوكب الأرض الذي يتقاتل فيه أهله مع بعضهم، في مشهد انتحاري عبثي. وفي الوقت الذي يجتهد فيه علماء وباحثون في اكتشاف أدوية وعلاجات جديدة لأمراض أجساد البشر المستعصية، تظل رغبات هؤلاء البشر المستعصية في القضاء على أنفسهم بأنفسهم خارج دائرة الأمراض الجسدية هي الأقوى. وتظل أمراض أرواحهم مقاومة لكل علاج أو دواء مقترح.

وعلى سبيل الموت المجاني العبثي، بأشكاله المختلفة، برزت، أخيراً، قضية الموت السوري على شواطئ اللجوء البعيد باعتبارها أحدث أشكال الموت الجماعي الذي تتفنن البشرية في ابتكار أشكاله الجديدة، كلما بهتت ألوان الأشكال القديمة له، واختفت معالمها.

واضح أن العالم بلغ من الجنون أوجه، وأننا كلما تقدمنا، أو ظننا أنفسنا، كبشر نتقدم، إنما ننجرّ إلى الحضيض الذي لا ندري، في النهاية، إلى أين سيؤدي بنا، إن استمرت الأنانية تحكم العالم، وتتحكم في مصائر سكانه، على مستوى الأفراد والجماعات والدول والأمم.

اليوم هو الأخير من العام 2015 الذي شهد أكبر وأقسى موجة لجوء بشري منذ عقدين، أي منذ حركة لجوء الروانديين إثر محاولات الإبادة الجماعية التي تعرّضوا لها في بلادهم.

فعلى الرغم من أن السوريين فكّروا بترك بلادهم، منذ اندلعت فيها نيران الثورة التي سرعان ما تكالب عليها كثيرون، ليحولوها من ثورة شعب حر ضد الطغيان إلى أزمة حرب داخل الأراضي السورية، شاركت فيها أطرافٌ تنتمي لكل بقاع الأرض تقريباً، بلا منتصر مؤكد حتى الآن، إلا أن اللجوء الذي بدأ على استحياء، في البداية، تحول، في العام المنصرم، ليكون هو هدف معظم السوريين، أو هكذا  ظهر الأمر في مختلف وسائل الإعلام العالمية.

ليس أمامي رقم محدد لعدد اللاجئين السوريين الذين نجحوا في اللجوء لأي بلد خارج سورية، والذين يحاولون، والمؤكد أنه يزيد عن بضعة ملايين من بلدٍ عدد سكانه أثنان وعشرون مليوناً. لم تفرغ سورية من سكانها بعد، ولن تفرغ إن شاء الله، لكن من يتابع مشاهد اللاجئين في نشرات الأخبار، منذ منتصف العام المنصرم، سيبدو له كأن سورية كلها تحاول اللجوء هرباً من الطغيان ومن الحرب ومن العدوان ومن الفقر، ومن الغرباء الذين وجدوا فيها أرضاً خصبة لتغذية نزعات القتل لديهم تحت شعارات مختلفة! خصوصاً أن سورية كانت من أوائل البلاد العربية التي هبت عليها رياح الربيع العربي منذ العام 2011، إلا أن الرياح لم تأت بما اشتهت الثورة والثوار، ذلك أنها البلد العربي الوحيد من بين بلدان الربيع الثوري التي لم تترك لشأنها ولشأن أهلها، فاستقبلت موجاتٍ من المتحاربين الغرباء، وبدت خريطة مصغرة لعالمٍ يكره نفسه، ويحاول الانتحار بأيسر السبل، ولا سبيل كالحرب تمكّنه من ذلك... اليوم في سورية، وغداً في أماكن أخرى من وطننا العربي!

تعرّف "ويكيبيديا" اللاجئ بأنه "الشخص الذي يهرب من بلده إلى بلد آخر، خوفاً على حياته، أو خوفاً من السجن أو التعذيب. وبتعدد أسباب اللجوء، تتشكل أنواعه، الحرب، الإرهاب والفقر". حسناً.. أنظروا كم عدد الذين يودون الهروب من بلدانهم للأسباب المذكورة، لتكتشفوا أن الوطن العربي كله أصبح لاجئاً، أو يتمنى اللجوء إن تيسر له ذلك، هرباً من الموت العبثي، أو سعياً إليه.. لا فرق كبيراً.

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.