المشهد السياسي المصري... إعادة قراءة

04 نوفمبر 2015
+ الخط -
لا تزال ثورة 25 يناير تلقي بظلالها على المشهد السياسي المصري، على الرغم من الهجوم الشرس الذي شنه، ولا زال يشنه، النظام الراهن ومؤسساته عليها، فقد كانت لحظة فارقة في تاريخ مصر الحديث، ولا زالت، فقد استطاعت أن تغير المشهد، وتقلب موازين قوى عديدة، وكانت لحظة صادمة بالنسبة للنظام ودوائره المختلفة، أفقدته القدرة على التعاطي معها أو محاولة فهمها. إلا أنه، ومع مرور الوقت، استطاع النظام إعادة حساباته وتدارك الموقف. يتعامل النظام مع "25 يناير" على أنها حركة، بينما هي، في الحقيقة، فكرة لخصت نفسها في شعارات ثلاثة: عيش/ حرية/ عدالة اجتماعية. ومنذ اللحظة الأولى، سعى إلى تقويض تلك الفكرة، وتحويلها إلى حركة، ليسهل حصارها والقضاء عليها، وبين قوة النظام وأدواته من ناحية، وانتهازية الأحزاب السياسية والقوى التقليدية وعجز الحركات الشبابية من ناحية أخرى، في القدرة على إيجاد فكرة جامعة، تعبر عن المرحلة، وتشعر الجميع بالمساهمة فيها، تم تقويض الثورة وحصارها، وانطلقت الثورة المضادة مستخدمة كل ما لديها من أدوات. وبنظرة إلى المعسكر الآخر للثورة المضادة، بمكوناته المختلفة، وكيفية إدارته المرحلة، يتضح أن من أدار المشهد سابقاً هو الشخص/ المؤسسة (نفسه) التي تدير المشهد حالياً. لكن، من الواضح أن المسألة نوع من الجولات ولم تنته بعد، وتبقي كل النهايات مفتوحة. وبالعودة إلى السؤال: كيف تم تقويض الثورة، أو بطريقة أخرى، كيف تمت إدارة الثورة المضادة؟
أولاً، عملية احتواء الثورة المصرية وأسلوب إدارتها من الخارج فرض نفسه عليها منذ اللحظة الأولى، وقبل تنحي حسني مبارك بأيام، فبعد أن تم الانقلاب الناعم على السلطة، بدأت الإشارة الحقيقية، لأن المرحلة المقبلة ستكون ذات طبيعة مختلفة في إدارة المشهد الانتقالي، تتسم بالذكاء والمراوغة السياسية، واستخدام آليات تخدم المؤسسة الحاكمة، وما يربطها من مصالح مشتركة مع حلفائها من المعسكر الغربي والأميركي، والذين يرون فيها الحليف الأساسي لتمرير قراراتهم ورؤيتهم، وليس من ضرر في دعمهم، والإبقاء على حكمهم بالاطمئنان على أن من سيصلون إلى الحكم سيصلون تحت رعايتهم وحمايتهم. وهذا يعكس من البداية الصيغة التوافقية لضمان الخروج الآمن للجنرالات من السلطة، وكفالة الحماية الأساسية لهم، وعدم السماح بالمساس بهم، أو محاولة إدانتهم، لضمان السيطرة والضغط عليهم من ناحية. ومن ناحية أخرى، الإبقاء على المعونات وتدفقها، ومراقبة المشهد الداخلي ومعرفة تفاصيله. وهنا، يطرح السؤال نفسه من هو القائم بتطبيق تلك الآليات وترجمتها عملياً، بدءاً بإنشاء المعركة حول الاستفتاء، مرورا بالدستور، أولاً، أم الانتخابات، وانتهاء بقانون الانتخابات، في إشارة إلى المستشارين الذين يقومون بهذا الدور؟
ثانياً، الإبقاء على المؤسسات القديمة، وعدم تطهيرها، ومحاولة تقديم طرق إصلاحية من دون المساس بجوهر بنيتها الداخلية، أو آليات عملها، في محاولة جادة لاستنساخ النظام وإعادة إنتاجه بما يسمح للنظام المستنسخ بالهيمنة مرة أخرى، وسيطرته على الحكم مجدداً، فقد حدث ذلك في ثورات عالمية عديدة، فمن يحكم روسيا الآن هو جهاز المخابرات الروسية، وكذلك الحال بالنسبة لرومانيا بعد عودة نظام شاوشيسكو إلى الحكم، وما قام به من تصفية للثورة والثوار.
وقد تمت عمليات الاستنساخ تلك من خلال مؤسسات وسيطة، في مقدمتها الحكومة الانتقالية التي أدارت المشهد في ظل ضبابية، من دون الوقوف على حقائق ثابتة أو امتلاك قرارات نافذة، ويتضح ذلك في البدائل التي قدمتها المؤسسة من داخل النظام ذاته، ممثلا في حكومة عصام شرف (عضو لجنة السياسات في الحزب الوطني)، وكذلك حكومة كمال الجنزوري ( وزير ورئيس حكومة 17 عاما في نظام مبارك)، وهو يشبه ما يحدث الآن في الانتخابات البرلمانية، وغيرها من الأمور الأخرى.
وتقدم وزارة الداخلية نموذجاً حقيقياً في عدم تطهير المؤسسات، أو حتى إصلاحها؛ إذ مثلت، ولا زالت تمثل، الذراع الأمنية التي يتم استخدامها للبطش بالثورة، وإن تم استخدام الجيش بطرق مختلفة (سلخانة مجلس الوزراء 25 فبراير_ ماسبيرو، ….. وقد استخدم الجيش فيها بصورة جزئية من أجل تثبيت أمر ما على الأرض وإبقائه)، وتستخدم تلك الذراع الأمنية تحت غطاء إعلامي، يمثل حائط صد وجدارا مانعا لكشف الحقائق التي تجري على الأرض، وتقديمها بصورة مغايرة، وهو ما تم في أحداث ماسبيرو وشارع محمد محمود.
وهناك اللعب على مساحات الاختلاف بين الثوار أنفسهم، من خلال عمليات الاستقطاب والاستدراج، وإشعال حرب تمويلية في التدليل على فقدان السيادة على إدارة المشهد، وكذلك المؤسسات والشخصيات التي كانت تحسب في المشهد الإعلامي، بوقوفها ضد ممارسات النظام السابق، فيما يمكن أن نسميه "فلول المعارضة".

ثالثاً، استعداء الشارع على الثورة وحشد الأغلبية الصامتة ضدها، وقد تمثل ذلك في أمرين: إحداث فراغ أمني في الشارع وترويج أكذوبة انهيار الشرطة، وإلقاء المسؤولية على الثورة والثوار، وهو ما أثبتت التجربة فشله وبيان كذبه، فقد وضحت قوة الشرطة وبطشها في شارع محمد محمود ستة أيام متتالية، وكذلك قدرة الجيش والشرطة على تأمين المرحلة الأولى من الانتخابات، وعدم ظهور للبلطجة وممارساتها. الأمر الثاني، الشارع والتأكيد على انقسامه باصطناع حشد كاذب، هو ما عرف بحشد العباسية في مواجهة حشود التحرير الصادقة. وهذا الأمر استنساخ للتجربة الناصرية عام 54 في أعقاب أزمة مارس الشهيرة بين محمد نجيب وجمال عبدالناصر، ووصلت الأزمة ذروتها عندما استأجر عبد الناصر صاوي أحمد صاوي، رئيس اتحاد عمال النقل، ودفعه إلى عمل إضراب يشل الحياة وحركة المواصلات، وشاركهم فيها عدد كبير من النقابات العمالية، وخرج المتظاهرون يهتفون "تسقط الديمقراطية.. تسقط الحرية"، وقد اعترف الصاوي بأنه حصل على مبلغ أربعة آلاف جنيه مقابل تدبير هذه المظاهرات.
رابعاً، استثمار مزيد من الوقت، لكي تنشأ القوة الليبرالية الجديدة، وتأخذ مساحة أكبر في الساحة السياسية، وهي قوة معروفة بعلاقتها وتحالفاتها القريبة من السلطة، وقد تجلى الأمر من خلال التمويلات المختلفة لفرض الهيمنة في توجيه عمل القوى السياسية والحزبية الجديدة. وكذلك دعم أحزاب ناشئة عديدة، أو إنشاء أحزاب لأهداف معينة، وهذا يدل على أن المجلس بدأ يمارس السياسة من خلال غطاء مدني. وهذا يذكّرنا بالمشهد الجزائري، وما فعلته المؤسسة العسكرية الجزائرية من دعم وإنشاء للأحزاب، بهدف بقاء المؤسسة وتوطيد أركانها من خلال التمثيل السياسي المدني. ولقد أدت جبهة الإنقاذ قبل "30 يونيو" هذا الدور على أكمل وجه، ثم انفرط عقدها، وهذا دليل على أنها لم تكن تحمل مشروعاً سياسياً، بل كانت غطاء مدنيا ليس أكثر.
خامساً، إقامة التحالفات مع القوى الإسلامية: والقوى الإسلامية في داخلها ليست مزاجاً واحداً، فمنها من هو معروف بعلاقته الأمنية وتعاونه مع السلطة والعمل تحت مظلتها، وهو ما اتضح فيما بعد بصورة أكبر في "30 يونيو" وما بعدها. وبالعودة إلى الوراء، وبتتبع للخريطة الديموغرافية في مصر، كان من الواضح أن القوى الإسلامية لن تستطيع الوصول إلى الحكم، إلا من خلال تحالفات مع القوى السياسية المختلفة، وفي مقدمتها المؤسسة العسكرية، باعتبارها طرفاً يدير المشهد في تلك المرحلة، زيادة على الانتهازية التي تتسم بها قوى الإسلام السياسي، من خلال تحالفه التاريخي والاعتيادي مع السلطة، أو القوى المسيطرة خارجياً، وكذلك الارتضاء بالهامش الذي تمنحه لهم السلطة، من أجل الإبقاء على قوة التنظيم وعدم تفككه، وهو الهاجس الذي سيطر على جماعة الإخوان المسلمين منذ سيطرة مجموعة التنظيم الخاص على المفاصل الهيكلية للجماعة. ثم كانت لحظة وصول الجماعة إلى السلطة، وكيف كانت طريقة إدارتها وتحيزاتها، وهو ما انتهى بإخراجها من سدة الحكم والتنكيل بأعضائها.
من هنا، تصدرت الأجندات الأيدولوجية، وانحصرت الأجندة الوطنية، واحتدم الصراع حول أمور هامشية، لا تعني سوى المضي في إجهاض ما قامت من أجله الثورة، والاستمرار في عملية احتوائها، وقد تجلى هذا الأمر بوضوح في أن القوى السياسية التقليدية والجديدة، على حد سواء، قد انشغلت بمعارك أخرى، ولم تحاول أن تستمر في استكمال عمليات التطهير لمؤسسات الدولة، أو أن تلتف حول الحركة العمالية في إضراباتها المختلفة والمتنوعة، وتجعلها منطلقاً وأساساً لعملية التطهير، وقوة جديدة تضاف إلى قوى الثورة. كل ما سبق هو ما أوصلنا إلى لحظة الصدام المباشر مع الجماعة، والأحداث المختلفة، وصولا إلى اللحظة الآنية بتعقيداتها المختلفة.
 @taqadum
BA733789-23B4-4A69-9D4A-CB7E100A9A4B
تقادم الخطيب

أكاديمي، باحث مصري في جامعة برلين، مشارك في الحراك السياسي المصري منذ 2006؛ ومسؤول ملف الاتصال السياسي في الجمعية الوطنية للتغيير سابقاً.