06 يوليو 2017
آفاق المواجهة بين إسرائيل والحركة الإسلامية
يفتح القرار الإسرائيلي، المعلن في 16 نوفمبر/تشرين ثاني الجاري، بإعلان حظر الحركة الإسلامية داخل إسرائيل، بزعامة الشيخ رائد صلاح، باباً جديداً من المواجهة بينهما، ويسلط الضوء مجدداً على واقع علاقتها المتأزمة طوال السنوات الماضية، عقب ارتفاع أصوات التحريض ضدها من أوساط حكومية وبرلمانية وأمنية. وتكشف السطور التالية عن طبيعة هذه العلاقة، واستشراف السلوك الإسرائيلي المتوقع ضد الحركة ورموزها.
لائحة الاتهامات
يمكن قراءة التحولات الإسرائيلية المتسارعة والجديدة إزاء الحركة الإسلامية في أراضي الـ48، ضمن أسباب غاية في الأهمية، أبرزها الدور الذي اضطلعت به الحركة في التحذير من الجهود الإسرائيلية لتقسيم المسجد الأقصى، وقيادة حركة المرابطين والمرابطات في ساحاته، والتصدي للمستوطنين الذين دأبوا على اقتحامه بين حين وآخر.
وهناك البنية الصلبة للحركة الإسلامية التي توجد في منطقتي المثلث والجليل. وهنا يكون التخوف الإسرائيلي كبيراً من نوازع انفصال فلسطيني ثقافي، أو تكون هذه المنطقة مثيرة للقلاقل الأمنية، أو تشكل بنية مساعدة لمقاومة الفلسطينيين في الضفة وغزة.
كما لا تستهين إسرائيل بالجهد الخيري والاجتماعي الذي مارسته الحركة الإسلامية في دعم وكفالة الأيتام وأبناء الشهداء والأسر الفقيرة في الضفة الغربية وقطاع غزة، معتمدة في ذلك على التبرعات التي حصلت عليها من فلسطينيي 48، وعلى الرغم من أنه عمل تمارسه الحركة، بشكل علني وقانوني، فإنه كان مصدر اتهام لها، وسبباً في إغلاق جمعياتها، واعتقال أبنائها تحت بند أن هذه الأموال تذهب إلى المقاومين، بشكل أو بآخر.
ويبدو أن ما لا تقوله إسرائيل هو خوفها من استمرار تعزز مشاعر الوطنية، والارتباط بالقضية الفلسطينية لدى فلسطينيي الداخل، عبر ربط أبناء الشهداء، مثلاً، بكفلاء ميسورين من عرب الـ48. ولذلك، نشب الخلاف الواضح بين الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، بين مؤيد لحظر الحركة الإسلامية ومعارض، مع وجود مخاوف مشتركة لدى الجانبين من محاولة قيادة الحركة الإسلامية مواصلة العمل في إطار القانون، حتى بعد إخراجها عن إطاره؛ لأنها لا ترغب في التنازل عن مراكز القوة التي راكمتها خلال السنين، وستواصل المشاركة في اللعبة، تحت أسماء وأقنعة أخرى.
وقد جاء قرار إسرائيل اليوم بحظر الحركة الإسلامية ليضعها أمام معضلة واجهتها أنظمة عربية في السابق، تتعلق بالتعامل مع الحركة الإسلامية؛ إذ إن إخراجها عن القانون هو بمثابة السير في الطريق الأسهل الذي ستكون إحدى نتائجه إمكانية توجه قسم من أفراد الحركة إلى العمل السري، كما حدث مع تجربة الدول العربية؛ ما سيُدخل إسرائيل في دوامة أخرى، وجحيم لا يطاق، وهي حالياً لم تتخلص بعد من "كابوس الانتفاضة المزعج"، ولا تريد فتح أبواب أخرى عليها.
وربما ما ساهم في ارتفاع حدة العداء الإسرائيلي للحركة الإسلامية، جهودها القاضية باتجاه "أسلمة الداخل وإفشال مخطط "الأسرلة"، مع وجود نسب متزايدة من عرب فلسطين المحتلة عام 1948 يعودون إلى حظيرة الالتزام الديني، بسبب تعاظم قوة الحركة الإسلامية.
بجانب ما ذكرته شعبة القوى البشرية في الجيش الإسرائيلي من اتهام مباشر للحركة الإسلامية بأنها تقف وراء حملات التحريض في التجمعات السكانية البدوية، لحث الشباب على عدم التطوع للخدمة في الجيش، لأن الحركة تمارس ضغوطاً على عائلات الشباب البدو لمنعهم من الخدمة. وبعد أن كان معدل المجندين للخدمة العسكرية 3600 شاباً سنوياً مطلع الثمانينات من القرن الماضي، انخفض ليصل إلى 390 شاباً عام 2006.
قيادة الجماهير
لا تخفي المؤسسة الإسرائيلية أن لها ثأراً شخصياً مع زعيم الحركة الإسلامية، الشيخ رائد صلاح، فقد تمتع الرجل بصفات قيادية كثيرة، كالإرادة والصبر والتصميم على تحقيق الهدف، جرأة الكلمة والموقف. لكن أهم ما ميزه قدرته على تحويل القيم الإسلامية الخلقية إلى جزء من ممارسته السياسية، فلم تتهمش خطوطه الحمراء، ولم تتزحزح ثوابته، ولم تتغير مواقفه، واستطاع أن يجعل من عبارة "الأقصى في خطر" شعاراً عالمياً يحرج المؤسسة الإسرائيلية، وبقي ثابتاً على موقفه، حتى في قاعة المحكمة، وبعد إعلان حظر حركته.
ولذلك، دخل رائد صلاح السجون الإسرائيلية، في وقت مبكر من حياته السياسية، بتهمة الارتباط بمنظمة محظورة سنة 1981، وبعد خروجه، وضع تحت الإقامة الجبرية، وكان في أثنائها ممنوعاً من مغادرة المدينة، ومن مغادرة منزله في الليل، وملزماً بإثبات وجوده، مرة أو مرتين، كل يوم في مركز الشرطة.
وشكلت أحداث الكشف عن النفق تحت المسجد الأقصى عام 1996، التي كان الشيخ صلاح أول من كشف النقاب عنها نقطة محورية في حياته، عزّزت لديه المخاوف من المساس بالمسجد، وضرورة تكثيف الجهود لحمايته، ما دفع به لإطلاق مشاريع لإحياء قضية الأقصى والدفاع عنه. وعاد ليقود سنة 1998 ما عرفت بـ"أحداث الروحة" التي اقتحمت فيها الشرطة الإسرائيلية مدينة أم الفحم، وأصابت ستمائة مواطن، ليعلن، في العام نفسه، ما سمّاه مشروع "المجتمع العصامي" الذي يهدف إلى بناء الذات لفلسطينيي الداخل.
واستمرت حملة التحريض تشتد، حتى سنة 2003، حيث اعتقل الشيخ، وأفرج عنه بعد سجنه عامين، ووجهت إليه تهم تعتبر خطيرة بنظر القانون الإسرائيلي، مثل "توصيل أموال" لحساب حركة المقاومة الإسلامية حماس، والاتصال بجهات معادية، ودعم "الإرهاب".
وعبر الشيخ رائد من داخل المعتقل عن قناعته بأن اعتقاله للمرة الثالثة يعتبر وصمة عارٍ في جبين إسرائيل، وشاهدٌ ساطع على أنها تتّجه نحو تسييس المحاكم وقراراتها، بهدف التحكّم بنوعية القرار في القضايا الأمنية خاصة.
كما عمدت السلطات الإسرائيلية للتضييق على الشيخ رائد منذ فترة طويلة، حيث أعلن جهاز المخابرات "الشاباك" أنه يمكن محاكمته بتهمة إقامته علاقات مع تنظيمات معادية لإسرائيل داخل البلاد وخارجها، لأنه يعتبر أن حركة حماس شقيقة للحركة الإسلامية في إسرائيل.
وقد تعرض لمحاولة اغتيال على يد قوات الاحتلال في أثناء مواجهات انتفاضة الأقصى، وأصيب برصاصة في وجهه، وأصدرت وزارة الداخلية سنة 2002 أمراً بمنعه من السفر خارج البلاد، بناء على ما اعتبرتها معلومات استخباراتية، ورفضت المحكمة العليا طلب الالتماس الذي تقدم به.
تبعات الحظر
وزاد التحريض على الحركة الإسلامية عموماً، والشيخ رائد خصوصاً، بعد انتفاضة الأقصى، وحاولت الأجهزة الأمنية، دائماً، أن تغيّبه وتعيق عمله في مشاريعه الخيرية، بقطع التواصل مع العالمين، العربي والإسلامي، وقال وزير الحرب السابق، بنيامين بن اليعازر، بأن الشيخ يعد خطراً على أمن الدولة.
وقبل منعه من إسرائيل، كانت الأردن قد منعته من دخول أراضيها ست مرات، وآخرها منعته من التوجه إلى أداء العمرة والمرور عبر أراضيها، كما صعّدت المؤسسة الرسمية وأذرعها الأمنية من ممارساتها ضد الشيخ، فحققت مرات معه حول قضايا دينية أساسية، كصلاة الفجر وأركان الإسلام وقضايا أخرى تتعلق بطبيعة الإيمان والعقيدة.
وربما أكثر ما ساهم في استهداف الشيخ رائد إسرائيلياً، مقاطعته انتخابات الكنيست، والدعوة إلى عدم المشاركة فيها، حيث حدد موقفه هذا، منذ بداية تشكله الفكري والسياسي، ومثلت سلسلة المقالات التي نشرها تحت عنوان: "نحن والانتخابات" دليلاً على موقفه الحاسم منها، وكانت دراسة متأنية ورؤية سياسية للحركة الإسلامية حول العمل البرلماني الإسرائيلي. وقد اعتبر الرجل أن انتخابات الكنيست تهدف إلى "استنزاف قوتنا، وضياع أعمارنا، وغرق طموحاتنا، ونحن نصرف كل طاقاتنا في معركة وهمية لا تسمن ولا تغني من جوع! وإن تجربة أكثر من خمسين عاماً في الكنيست أثبتت أن النتيجة تكاد تصل إلى الصفر، إن الكنيست ذو وضعية ثابتة أحبطت كل جهود أعضائه العرب.
ومن جديد المضايقات بحقه منعه من إلقاء محاضرات في بعض الجامعات الإسرائيلية للطلاب العرب، حول قضايا دينية بحتة، لا علاقة لها بالسياسة، لكن إدارات الجامعات المرتبطة بالمؤسسة الرسمية رأت في وجوده، مجرد وجوده، داخل الحرم الجامعي، ما يعكر صفو العلاقة بين الطلاب العرب واليهود.
خيارات محدودة
مما سبق، يتبدى أن الناظر إلى سلسلة الملاحقات الأمنية المتواصلة للشيخ رائد من الجهات الأمنية يخرج بقناعة مفادها بأن ما يحصل فعلاً هو سعي إسرائيلي حثيث لترتيب ملفات وتلفيقها، بغرض مطاردته وحصر فعاليته، ومحاولة ثنيه عن مسيرته ومساره وموقفه ضد ممارسات الاحتلال في القدس والأقصى، وهو ما تمثل، فعلاً، بإصدار الحكم عليه بالسجن الفعلي، قبيل إعلان حظر الحركة الإسلامية قبل يومين.
أمام كل ما تقدم، لم يتبق لإسرائيل إلا خياران، إما أن تقوم بتركيع الحركة الإسلامية، وتعمل على الحد من نشاطها، أو أن "تستسهل" الأمر، كما قامت بحظرها وإخراجها من دائرة الشرعية، وإغلاق مؤسساتها، وكلاهما يضر إسرائيل من عدة زوايا: داخلياً وخارجياً، ويصعّد دور الحركة الإسلامية، ليس فقط في أراضي الـ67، بل داخل البيت الإسرائيلي نفسه.
التقدير السائد داخل إسرائيل أن الخطوات المتوقعة، عقب قرار حظر الحركة الإسلامية، تتلخص في: منع خطب الجمعة في مساجد فلسطين المحتلة 48 لرجال الحركة الإسلامية، ومنع قادتها من دخول قطاع غزة والضفة الغربية، ومنعه من مغادرة إسرائيل، وفحص المصادر المالية التي تمول الحركة، ومراقبة الأموال التي تدخل المناطق الفلسطينية، ومنع المهرجانات والتجمعات الكبيرة، فضلاً عن إغلاق المؤسسات التربوية التعليمية التابعة لها.
باتت الحركة الإسلامية تواجه مشكلات ومعوقات كبيرة وكثيرة مع السلطات الإسرائيلية، بسبب حظر نشاط مؤسساتها التي تزيد عن 22 مؤسسة خدمية، وقد تبقى تتحرك بما توفر من هوامش متوفرة لتعزيز قناعاتها الإسلامية والوطنية. وفي المقابل، تحركت إسرائيل ضمن موازناتها الداخلية ورؤاها الاستراتيجية، واستغلت كل مساحة للقانون لملاحقة الحركة، وجمعت استخبارياً كل ما يؤيد دعواها، ما يؤكد أن إسرائيل انتقلت، فعلاً، من مرحلة "القبضة اللينة إلى القبضة الحديدية"، ومن "التصريحات إلى الأفعال" في تعاملها مع الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني المحتل.
أخيراً.. يبدو أن الصدام بين الحركة الإسلامية ومشروعها "العصامي" من جهة، وإسرائيل وسياساتها "الاستئصالية" من جهة ثانية، أمر حتمي، لكن ما يرجح في ضوء تباين وجهات النظر الأمنية الإسرائيلية تجاه الحركة هو بقاء القبضة الحديدية في حدودها، مع إمكانية استمرارها في ضوء صعود اليمين الإسرائيلي، ما يعني أن العلاقة ستبقى في هذا الإطار، مع فرضية أن تكون مرشحة للتطور، نحو سيناريو أسوأ، بفعل عدة عوامل خارجية وداخلية، وقد يكون قرار الحظر قمة جبل الجليد ليس أكثر.
لائحة الاتهامات
يمكن قراءة التحولات الإسرائيلية المتسارعة والجديدة إزاء الحركة الإسلامية في أراضي الـ48، ضمن أسباب غاية في الأهمية، أبرزها الدور الذي اضطلعت به الحركة في التحذير من الجهود الإسرائيلية لتقسيم المسجد الأقصى، وقيادة حركة المرابطين والمرابطات في ساحاته، والتصدي للمستوطنين الذين دأبوا على اقتحامه بين حين وآخر.
وهناك البنية الصلبة للحركة الإسلامية التي توجد في منطقتي المثلث والجليل. وهنا يكون التخوف الإسرائيلي كبيراً من نوازع انفصال فلسطيني ثقافي، أو تكون هذه المنطقة مثيرة للقلاقل الأمنية، أو تشكل بنية مساعدة لمقاومة الفلسطينيين في الضفة وغزة.
كما لا تستهين إسرائيل بالجهد الخيري والاجتماعي الذي مارسته الحركة الإسلامية في دعم وكفالة الأيتام وأبناء الشهداء والأسر الفقيرة في الضفة الغربية وقطاع غزة، معتمدة في ذلك على التبرعات التي حصلت عليها من فلسطينيي 48، وعلى الرغم من أنه عمل تمارسه الحركة، بشكل علني وقانوني، فإنه كان مصدر اتهام لها، وسبباً في إغلاق جمعياتها، واعتقال أبنائها تحت بند أن هذه الأموال تذهب إلى المقاومين، بشكل أو بآخر.
ويبدو أن ما لا تقوله إسرائيل هو خوفها من استمرار تعزز مشاعر الوطنية، والارتباط بالقضية الفلسطينية لدى فلسطينيي الداخل، عبر ربط أبناء الشهداء، مثلاً، بكفلاء ميسورين من عرب الـ48. ولذلك، نشب الخلاف الواضح بين الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، بين مؤيد لحظر الحركة الإسلامية ومعارض، مع وجود مخاوف مشتركة لدى الجانبين من محاولة قيادة الحركة الإسلامية مواصلة العمل في إطار القانون، حتى بعد إخراجها عن إطاره؛ لأنها لا ترغب في التنازل عن مراكز القوة التي راكمتها خلال السنين، وستواصل المشاركة في اللعبة، تحت أسماء وأقنعة أخرى.
وقد جاء قرار إسرائيل اليوم بحظر الحركة الإسلامية ليضعها أمام معضلة واجهتها أنظمة عربية في السابق، تتعلق بالتعامل مع الحركة الإسلامية؛ إذ إن إخراجها عن القانون هو بمثابة السير في الطريق الأسهل الذي ستكون إحدى نتائجه إمكانية توجه قسم من أفراد الحركة إلى العمل السري، كما حدث مع تجربة الدول العربية؛ ما سيُدخل إسرائيل في دوامة أخرى، وجحيم لا يطاق، وهي حالياً لم تتخلص بعد من "كابوس الانتفاضة المزعج"، ولا تريد فتح أبواب أخرى عليها.
وربما ما ساهم في ارتفاع حدة العداء الإسرائيلي للحركة الإسلامية، جهودها القاضية باتجاه "أسلمة الداخل وإفشال مخطط "الأسرلة"، مع وجود نسب متزايدة من عرب فلسطين المحتلة عام 1948 يعودون إلى حظيرة الالتزام الديني، بسبب تعاظم قوة الحركة الإسلامية.
بجانب ما ذكرته شعبة القوى البشرية في الجيش الإسرائيلي من اتهام مباشر للحركة الإسلامية بأنها تقف وراء حملات التحريض في التجمعات السكانية البدوية، لحث الشباب على عدم التطوع للخدمة في الجيش، لأن الحركة تمارس ضغوطاً على عائلات الشباب البدو لمنعهم من الخدمة. وبعد أن كان معدل المجندين للخدمة العسكرية 3600 شاباً سنوياً مطلع الثمانينات من القرن الماضي، انخفض ليصل إلى 390 شاباً عام 2006.
قيادة الجماهير
لا تخفي المؤسسة الإسرائيلية أن لها ثأراً شخصياً مع زعيم الحركة الإسلامية، الشيخ رائد صلاح، فقد تمتع الرجل بصفات قيادية كثيرة، كالإرادة والصبر والتصميم على تحقيق الهدف، جرأة الكلمة والموقف. لكن أهم ما ميزه قدرته على تحويل القيم الإسلامية الخلقية إلى جزء من ممارسته السياسية، فلم تتهمش خطوطه الحمراء، ولم تتزحزح ثوابته، ولم تتغير مواقفه، واستطاع أن يجعل من عبارة "الأقصى في خطر" شعاراً عالمياً يحرج المؤسسة الإسرائيلية، وبقي ثابتاً على موقفه، حتى في قاعة المحكمة، وبعد إعلان حظر حركته.
ولذلك، دخل رائد صلاح السجون الإسرائيلية، في وقت مبكر من حياته السياسية، بتهمة الارتباط بمنظمة محظورة سنة 1981، وبعد خروجه، وضع تحت الإقامة الجبرية، وكان في أثنائها ممنوعاً من مغادرة المدينة، ومن مغادرة منزله في الليل، وملزماً بإثبات وجوده، مرة أو مرتين، كل يوم في مركز الشرطة.
وشكلت أحداث الكشف عن النفق تحت المسجد الأقصى عام 1996، التي كان الشيخ صلاح أول من كشف النقاب عنها نقطة محورية في حياته، عزّزت لديه المخاوف من المساس بالمسجد، وضرورة تكثيف الجهود لحمايته، ما دفع به لإطلاق مشاريع لإحياء قضية الأقصى والدفاع عنه. وعاد ليقود سنة 1998 ما عرفت بـ"أحداث الروحة" التي اقتحمت فيها الشرطة الإسرائيلية مدينة أم الفحم، وأصابت ستمائة مواطن، ليعلن، في العام نفسه، ما سمّاه مشروع "المجتمع العصامي" الذي يهدف إلى بناء الذات لفلسطينيي الداخل.
واستمرت حملة التحريض تشتد، حتى سنة 2003، حيث اعتقل الشيخ، وأفرج عنه بعد سجنه عامين، ووجهت إليه تهم تعتبر خطيرة بنظر القانون الإسرائيلي، مثل "توصيل أموال" لحساب حركة المقاومة الإسلامية حماس، والاتصال بجهات معادية، ودعم "الإرهاب".
وعبر الشيخ رائد من داخل المعتقل عن قناعته بأن اعتقاله للمرة الثالثة يعتبر وصمة عارٍ في جبين إسرائيل، وشاهدٌ ساطع على أنها تتّجه نحو تسييس المحاكم وقراراتها، بهدف التحكّم بنوعية القرار في القضايا الأمنية خاصة.
كما عمدت السلطات الإسرائيلية للتضييق على الشيخ رائد منذ فترة طويلة، حيث أعلن جهاز المخابرات "الشاباك" أنه يمكن محاكمته بتهمة إقامته علاقات مع تنظيمات معادية لإسرائيل داخل البلاد وخارجها، لأنه يعتبر أن حركة حماس شقيقة للحركة الإسلامية في إسرائيل.
وقد تعرض لمحاولة اغتيال على يد قوات الاحتلال في أثناء مواجهات انتفاضة الأقصى، وأصيب برصاصة في وجهه، وأصدرت وزارة الداخلية سنة 2002 أمراً بمنعه من السفر خارج البلاد، بناء على ما اعتبرتها معلومات استخباراتية، ورفضت المحكمة العليا طلب الالتماس الذي تقدم به.
تبعات الحظر
وزاد التحريض على الحركة الإسلامية عموماً، والشيخ رائد خصوصاً، بعد انتفاضة الأقصى، وحاولت الأجهزة الأمنية، دائماً، أن تغيّبه وتعيق عمله في مشاريعه الخيرية، بقطع التواصل مع العالمين، العربي والإسلامي، وقال وزير الحرب السابق، بنيامين بن اليعازر، بأن الشيخ يعد خطراً على أمن الدولة.
وقبل منعه من إسرائيل، كانت الأردن قد منعته من دخول أراضيها ست مرات، وآخرها منعته من التوجه إلى أداء العمرة والمرور عبر أراضيها، كما صعّدت المؤسسة الرسمية وأذرعها الأمنية من ممارساتها ضد الشيخ، فحققت مرات معه حول قضايا دينية أساسية، كصلاة الفجر وأركان الإسلام وقضايا أخرى تتعلق بطبيعة الإيمان والعقيدة.
وربما أكثر ما ساهم في استهداف الشيخ رائد إسرائيلياً، مقاطعته انتخابات الكنيست، والدعوة إلى عدم المشاركة فيها، حيث حدد موقفه هذا، منذ بداية تشكله الفكري والسياسي، ومثلت سلسلة المقالات التي نشرها تحت عنوان: "نحن والانتخابات" دليلاً على موقفه الحاسم منها، وكانت دراسة متأنية ورؤية سياسية للحركة الإسلامية حول العمل البرلماني الإسرائيلي. وقد اعتبر الرجل أن انتخابات الكنيست تهدف إلى "استنزاف قوتنا، وضياع أعمارنا، وغرق طموحاتنا، ونحن نصرف كل طاقاتنا في معركة وهمية لا تسمن ولا تغني من جوع! وإن تجربة أكثر من خمسين عاماً في الكنيست أثبتت أن النتيجة تكاد تصل إلى الصفر، إن الكنيست ذو وضعية ثابتة أحبطت كل جهود أعضائه العرب.
ومن جديد المضايقات بحقه منعه من إلقاء محاضرات في بعض الجامعات الإسرائيلية للطلاب العرب، حول قضايا دينية بحتة، لا علاقة لها بالسياسة، لكن إدارات الجامعات المرتبطة بالمؤسسة الرسمية رأت في وجوده، مجرد وجوده، داخل الحرم الجامعي، ما يعكر صفو العلاقة بين الطلاب العرب واليهود.
خيارات محدودة
مما سبق، يتبدى أن الناظر إلى سلسلة الملاحقات الأمنية المتواصلة للشيخ رائد من الجهات الأمنية يخرج بقناعة مفادها بأن ما يحصل فعلاً هو سعي إسرائيلي حثيث لترتيب ملفات وتلفيقها، بغرض مطاردته وحصر فعاليته، ومحاولة ثنيه عن مسيرته ومساره وموقفه ضد ممارسات الاحتلال في القدس والأقصى، وهو ما تمثل، فعلاً، بإصدار الحكم عليه بالسجن الفعلي، قبيل إعلان حظر الحركة الإسلامية قبل يومين.
أمام كل ما تقدم، لم يتبق لإسرائيل إلا خياران، إما أن تقوم بتركيع الحركة الإسلامية، وتعمل على الحد من نشاطها، أو أن "تستسهل" الأمر، كما قامت بحظرها وإخراجها من دائرة الشرعية، وإغلاق مؤسساتها، وكلاهما يضر إسرائيل من عدة زوايا: داخلياً وخارجياً، ويصعّد دور الحركة الإسلامية، ليس فقط في أراضي الـ67، بل داخل البيت الإسرائيلي نفسه.
التقدير السائد داخل إسرائيل أن الخطوات المتوقعة، عقب قرار حظر الحركة الإسلامية، تتلخص في: منع خطب الجمعة في مساجد فلسطين المحتلة 48 لرجال الحركة الإسلامية، ومنع قادتها من دخول قطاع غزة والضفة الغربية، ومنعه من مغادرة إسرائيل، وفحص المصادر المالية التي تمول الحركة، ومراقبة الأموال التي تدخل المناطق الفلسطينية، ومنع المهرجانات والتجمعات الكبيرة، فضلاً عن إغلاق المؤسسات التربوية التعليمية التابعة لها.
باتت الحركة الإسلامية تواجه مشكلات ومعوقات كبيرة وكثيرة مع السلطات الإسرائيلية، بسبب حظر نشاط مؤسساتها التي تزيد عن 22 مؤسسة خدمية، وقد تبقى تتحرك بما توفر من هوامش متوفرة لتعزيز قناعاتها الإسلامية والوطنية. وفي المقابل، تحركت إسرائيل ضمن موازناتها الداخلية ورؤاها الاستراتيجية، واستغلت كل مساحة للقانون لملاحقة الحركة، وجمعت استخبارياً كل ما يؤيد دعواها، ما يؤكد أن إسرائيل انتقلت، فعلاً، من مرحلة "القبضة اللينة إلى القبضة الحديدية"، ومن "التصريحات إلى الأفعال" في تعاملها مع الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني المحتل.
أخيراً.. يبدو أن الصدام بين الحركة الإسلامية ومشروعها "العصامي" من جهة، وإسرائيل وسياساتها "الاستئصالية" من جهة ثانية، أمر حتمي، لكن ما يرجح في ضوء تباين وجهات النظر الأمنية الإسرائيلية تجاه الحركة هو بقاء القبضة الحديدية في حدودها، مع إمكانية استمرارها في ضوء صعود اليمين الإسرائيلي، ما يعني أن العلاقة ستبقى في هذا الإطار، مع فرضية أن تكون مرشحة للتطور، نحو سيناريو أسوأ، بفعل عدة عوامل خارجية وداخلية، وقد يكون قرار الحظر قمة جبل الجليد ليس أكثر.