الجرح الفلسطيني

21 أكتوبر 2015
+ الخط -
لن نستوفي التحليل كل ما يستحقه، لتفسير ما يجري في فلسطين المحتلة بأنه عدوان وإجرام وتعد، ولن يعدم المحلل الموضوعي إيجاد ما يدعم حججه واستنتاجاته أن ما يحصل هو استمرار للظلم التاريخي المسلط على الشعب الفلسطيني. لا يهم أن نصف ما يحدث أنه انتفاضة ثالثة، أو يحمل، في طياته، بذور انتفاضة مقبلة. كما لا ينبغي أن نستغرق طويلاً في البحث عن الكلمات والعبارات القوية، لاستنكار كل هذا العنف اليومي الذي يؤثث شاشاتنا الصغيرة، إلى درجة أننا طبعنا معه حتى صار جزءاً منّا. ولسنا مطالبين أن نسأل الضحية، لماذا يلجأ إلى الدفاع عن نفسه بحجارةٍ، أو بسكين مطبخ، أو بيديه العاريتين، أو فقط بصراخه.
ستون سنة وأكثر والمشاهد نفسها تتكرر، ما يتغير هو إبداع الضحية في مواجهة آلة القتل الأسطورية المسلطة عليه، وتفنن الجلاد في ابتكار آلات قتله الجهنمية التي تشبع من الدماء.
من السهل القول، إن سبب المواجهات المتصاعدة في القدس الشرقية والضفة الغربية، هو الشعور المتزايد باليأس لدى الشباب الفلسطيني، والإحباط المتراكم عبر السنين، وفقدانهم الأمل في انتهاء الاحتلال الذي يجثم على بلادهم منذ ستة عقود، والملل من سماع الخطابات النمطية نفسها التي تتحدث عن السلام والتسوية والحلول العادلة. لكن، هل سيغير مثل هذا الكلام من المعادلة شيئاً؟ طبعاً لا.
ومن المعقول جداً تفسير ما يحصل أنه نتيجة طبيعية وحتمية لسياسات القمع والإذلال التي يواجهها الفلسطينيون، على أيدي السلطات الإسرائيلية والمستوطنين. كما أنه من المنطقي تفهم ردة فعل الفلسطيني، عندما يخرج بصدر عارٍ، يواجه القتل المنقول مباشرة على الهواء. لكن، سيقدم مثل هذا الكلام الحل في شيء؟ طبعاً لا.
جرّب الاحتلال كل أدوات القمع وآلات القتل، وارتكب الجرائم الإنسانية، ونفذ المجازر والإبادات الجماعية، لكنه لم يفلح في ثني الضحية الذي يحمل نعشه فوق كتفه عن مواصلة دربه المعمد بالدماء ورائحة الموت.
بعيداً عن كل التحليلات السياسية المغرقة في التنظير، وعن كل القراءات التي تستدعي التاريخ والجغرافيا، وتلك التي تتذّرع بالسياسة والاستراتيجيا. هذا العنف الفظيع والمستفز هو وليد ذاك الظلم التاريخي الإسرائيلي للفلسطينيين، منذ عام النكبة عام 1948، مروراً بكل أسماء
المجازر من دير ياسين إلى صبرا وشاتيلا ومجازر غزة التي لا تتوقف. فلو لم يكن هناك كل هذا الظلم، لما وجدت كل ردة الفعل هذه العنيفة والمستمرة. ولولا كل هذا التراكم من العنف التاريخي، لما وجد في العالم العربي والإسلامي ما يبرر هذا الخطاب الجهادي العنيف الذي أصبحت رقعته تمتد من فلسطين إلى أفغانستان شرقاً، ومن القدس إلى أقاصي المحيط غرباً.
ننسى أن أول قائد جهادي عربي في أفغانستان، فلسطيني، اسمه عبدالله عزام، هو نتاج هذا الظلم التاريخي وابنه الشرعي. ورفيق دربه أسامة بن لادن، السعودي، خرج من أرضه مقاتلاً أميركا، لأنه كان يرى فيها حليفاً للصهيونية التي هزته مجازرها في فلسطين ولبنان، فخرج يقاتلها في كل بقاع الأرض من أفغانسان. ليس الهدف من هذا الكلام تبرير كل فظاعات تنظيم القاعدة وجرائمه المدانة. لكن، يجب أن نسأل أنفسنا: لو لم توجد مأساة تاريخية، مثل المأساة الفلسطينية، هل كانت ستُرتكب باسمها كل هذه الفظاعات التي مازالت تنزف مثل جرح مفتوح؟ من هجمات نيويورك الفظيعة إلى المآسي التي ذهبت ضحيتها أكثر من ضحية بريئة، وكانت مسرحاً لها أكثر من عاصمة ومدينة بعيدة، ظل سكانها يعيشون بعيداً عن المأساة التاريخية للشعب الفلسطيني؟
ما يتكرر، اليوم، من ألم وعنف وقتل هو استمرار للمأساة نفسها، وامتداد للظلم التاريخي نفسه. إنه الجرح نفسه الذي ظل مفتوحاً ينزف دماً، وينز ألماً. ومن عمق هذا الجرح، تنبع قوة الفلسطيني، كلما زاد ألمه اشتد إصراره، وكلما نزف دمه قويت عزيمته. إنها قوة المظلوم عندما يصرخ فتهتز لصرخته الجبال.
قوة الشعب الفلسطيني تكمن في قوة حقه، فهو يملك قوة الحق وقوة العدل، إنه صاحب حق تاريخي، حق عمّده بالدم والتضحيات الجسام. والسبيل الوحيد لتصحيح هذا الجرح التاريخي، ووقف هذه المواجهات المتصاعدة في القدس والضفة هو إعادة الأمور إلى نصابها، وإعادة الحق إلى أصحابه.
الحق الفلسطيني كما حددته الاتفاقات التي وافق عليها رموزه وممثلوه، وصادقت عليها عشرات المؤتمرات، يتمثل في تطبيق حل الدولتين، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس. ليس هذا مجرد شعار أو عبارة تعودنا على قراءتها في البيانات الرسمية الروتينية، لكنه الحل الوحيد الكفيل بإنهاء مأساة تاريخية دامت أكثر من ستين عاماً ومازالت... وعدا ذلك، سيستمر العنف ويتطور، وتتسع رقعته، ويكثر ضحاياه، كلما استمر الظلم الذي يبررّه.


D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).