حل الحركات الإسلامية.. أي منطق؟

09 يناير 2015

محمد مرسي في إحدى جلسات محاكمته (5 نوفمبر/2014/الأناضول)

+ الخط -

عندما ترى تحكم المنطق الإقصائي، أو حتى الإلغائي للآخر، في البنية الثقافية العربية، لا تذهب بعيداً في تفتيشك عن معضلات واقعنا المعاصر وإخفاقاته. فمشكلاتنا لا تكمن في أنظمة قمعية ومناخ استبدادي، فضلاً عن تكلس فكري وتخلّف على كل المستويات، فحسب، بل إنها، أيضا، تشمل الضيق بالآخر، الفكري والسياسي والديني، وزعم امتلاك الحقيقة. نعم، إننا، اليوم، أمة تقوم مكوناتها المختلفة على محاولة شطب بعضها بعضاً، بدل أن ينافس بعضها في سوق حر وفضاء مفتوح.
ضمن سياق محاولات الإلغاء تلك، أطلّت دعوات، أخيراً، برأسها بعد دخول الثورات العربية مرحلة وميض الجمر تحت الرماد، إلى حل الحركات الإسلامية، بعد أن تَمَّ تحميلها، هكذا وبدون أي منطق ولا نزاهة في إصدار الأحكام، مسؤولية إجهاض تلك الثورات، وإخماد نيرانها التي كانت ملتهبة وسريعة الانتشار. وأفتح قوسين، هنا، قبل الاستطراد، فالثورات العربية لم تخمد، فأسبابها لا زالت قائمة، وهي إن كانت ناراً تحت الرماد اليوم، فهي لن تلبث أن تشتعل، من جديد، مع أول ريح تُعرّيها، وتدفع بها نحو الإمساك بيباس واقعنا المُرِّ. ويبقى تحدّينا الأساس، إن كانت تلك الثورات ستكون فوضى عارمة، أم ثورات بنّاءة.
المهم، يريد بعضهم، وبناء على قراءة خاطئة للواقع العربي اليوم، أو انطلاقاً من تحيزات إيديولوجية وسياسية مسبقة، أن يقنعنا بأنه لو لم تكن هناك حركات إسلامية، وتحديداً "الإخوان المسلمون"، لما فشلت، مثلاً، الثورة المصرية أو استنزفت غيرها من الثورات، كما في تونس، بسبب ثقل حركة النهضة، أو أعطبت بسبب دخول التيارات المتطرفة على الخط، كما في

سورية. ويجادل هؤلاء بأن الأنظمة القمعية جعلت من الإسلاميين عنواناً لمعركة كسر العظم مع الثورات، كما يجادلون بأن الحركات الإسلامية أظهرت قدراً كبيراً من الخفة والرعونة، فضلاً عن محاولة الاستئثار بالثورات. 
طبعاً، لن يُتعب هؤلاء أنفسهم في محاولة تقصي جذور أزمتنا اليوم كعرب، فرمي الحركات الإسلامية بكل نقيصة، واتهامها بكل كارثة، وتسخيفها في كل أمر، إنما هي أفعال بلا ثمن، كما أنها تدخل في سياق الوهم القائل إن هذه مقدمات الرصانة التحليلية والفهم العميق! أما الحديث عن مناخات الكبت وانعدام الحريات وتمكن التخلف من مفاصل مجتمعاتنا العربية، وعلى كل الصعد، الاجتماعية والفكرية والسياسية والسلوكية.. إلخ، فهي مسائل "هامشية"، لن يجرؤ هؤلاء على طرقها.
أحد وجوه المشكلة، هنا، أن الذين يجادلون بأن ثورة مصر ما كانت لتفشل لو أنّ "الإخوان" حلّوا تنظيمهم، ينطلقون من فرضياتٍ لم تبحث قط ولم تدرس بشكل صحيح. وهي، في أحسن الأحوال، لا تعدو أن تكون مشاجب لتعليق فشل الجميع في حماية ثورة من الوأد، وبمشاركة كثير من الثوار أنفسهم. بل إن تحميل "الإخوان" الوزر الحصري لتعطيل الثورة وانتكاستها، إنما هو نوع من ممارسة التدليس ومحاولة إعادة كتابة، لا التاريخ فحسب، بل وكذلك الواقع الذي نعيشه اليوم. فكيف لنا أن نقبل "نزاهة" أحكام هؤلاء، والداني والقاصي يعرف أن إجهاض ثورة مصر، والثورات العربية الأخرى، إنما كانت حصيلة جهود محلية وإقليمية ودولية، استهدفت خنق رياح التغيير، من حيث هي تغيير، ولم يكن تركيز المعركة مع الحركات الإسلامية إلا لأنها كانت الثقل الأبرز في تلك الثورات، من دون أن نَسْقُطَ هنا في زعم أنها من فجّرتها.
هذا لا يعني أن الحركات الإسلامية لم ترتكب أخطاء كبيرة. فالإخوان أخطأوا في ظنهم أنهم الأحق بالاستئثار بحصاد ثورة لم تكتمل، ولم تكن حكراً عليهم، كما أن حركات إسلامية أخرى مارست الخيانة بحق الثورات، كما فعل حزب النور المصري (الصناعة المخابراتية ليست بعيدة عنه)، وذهب طرف ثالث إلى أبعد من ذلك بحرف الثورات عن مسارها كلياً، كما تفعل "داعش" (والتي هي من ناحية منتج حصري للكبت، كما أنها منتج للتخلف الفكري والفقهي). كل هذا صحيح، غير أن الصحيح أيضاً، أن كثيرين ممن يزعمون الليبرالية واليسارية والقومية والثورية، مارسوا أفعالاً لا تقل خيانةً عن فعل حزب النور و"داعش" بحق الثورات وشعوبهم. خيانات انتهت بإعادة إنتاج ذات الأنظمة التي ثاروا عليها، ولكن، بصورة أكثر شراسة، اليوم. هل نحتاج، هنا، إلى استدعاء أسماء تيارات وشخصيات من مصر وتونس وليبيا واليمن لتنشيط ذاكرة بعضهم!؟
الانقلاب على الثورات العربية كان سيحصل، سواء كان المتصدر الحركات الإسلامية أم أي تيار إيديولوجي آخر، ويكفي دليلاً أن ذلك التحالف ما بين بنى الدولِّ العميقة ضمن السياقين الإقليمي والدولي لم يستطع، حتى أن يهضم رجلاً يسارياً حقوقياً، مثل الرئيس التونسي السابق، المنصف المرزوقي، وذلك بعد أن تمَّ تحجيم "النهضة". وينطبق الأمر اليوم على الائتلاف السوري بأغلبيته العلمانية، والذي يجد رفضاً من دول مثل مصر ما بعد الانقلاب. 
ثمَّ إن أولئك الذين يطالبون الحركات الإسلامية بحل نفسها، وفضلاً عن سقوطهم بمنطق الإقصاء والإلغاء بحق غيرهم (للمفارقة هذه التهم نفسها التي يلصقونها بالحركات الإسلامية)، تراهم يمارسون نوعاً من الترف الفكري المنبتّ عن الواقع. فحقيقة وجود الحركات الإسلامية وثقلها المعتبر في مجتمعاتنا، دليل ساطع بَيِّن على أن هذه الحركات تمثل حالةً مجتمعية، أحببناها أم كرهناها. فإذا كانت هذه الحالة المجتمعية، في نظر بعضهم، تعد حالة مرضية، حينها ينبغي علاج أسباب هذا المرض وجذوره، لا محاولة بتره، بما سيعنيه ذلك من ارتدادات مجتمعية بعواقب كارثية. أبعد من ذلك، حتى ولو افترضنا جدلاً أن الحركات الإسلامية ستحل نفسها طوعاً، فهذا لا يعني أن هذا الفراغ لن يشغل، فالظواهر الاجتماعية ترفض الفراغ، وسيكون بديل الحركات الإسلامية حركات إسلامية أخرى، ذلك أنها، مرة أخرى، حالة مجتمعية وتعبير ثقافي، اتفقنا معه أم اختلفنا. 
مشكلة الداعين إلى حل الحركات الإسلامية، وهم يعنون تحديداً "الإخوان"، أن بعضهم فقد الجرأة على الاعتراف بأن جذر مشكلاتنا هو الاستبداد والقمع، في حين أن بعضهم الآخر قبل لنفسه أن يكونوا "هامانا" لفرعون. ترى بعضهم يضج بالشكوى من انغلاق الحركات الإسلامية وإقصائيتها، ولا تراهم يملكون الصدق الكافي مع أنفسهم، أنهم، هم أيضاً، لا يقلون إقصائية بحق غيرهم. إنها سموم الكبت التي تمكنت من الروح والعقل العربيين، وأنتجت لنا أمثال "داعش" واستئصاليين باسم العلمانية.
أخيراً، نعم، الحركات الإسلامية بحاجة إلى مراجعات حقيقية، عميقة وشاملة، كما أنها بحاجة إلى الانفتاح على مجتمعاتها، وليس فقط محاولة "إصلاحها". ولكن، هذا لا يعني أن الآخرين من ليبراليين ويساريين وقوميين وعلمانيين عرب، بل وإسلاميين سابقين تحرروا تنظيمياً، لكنهم لم يتحرروا عقلياً وفكرياً، ليسوا بحاجة إلى التواضع، وإجراء ذات المراجعات والتحلل من منطق الوصاية. فليس من المقبول من بعض هؤلاء أن يستمروا بالتعبير عن عقدة هامشيتهم، بمحاولة إلغاء من يتهمونهم بالإقصائية، كما أنه لن تنتصر ثورة عربية ضد الاستبداد، إن لم يكن ثمة توافق مجتمعي وفكري وسياسي لتحقيق ذلك.