لماذا سُجنتُ في سورية

02 يناير 2015

اعتصام لأهالي معتقلين لبنانيين في سجون سورية (مارس/2011/أ.ف.ب)

+ الخط -

كنت أجلس، وصديقة لي، في مقهى "شانكريلا" البائد في محلة الروشة في بيروت.
كانت عشية رائقة من إبريل/ نيسان عام 1977. ظهري إلى الحائط، ووجهي إلى باب المقهى. فجأة، تدخل ثلة من الجنود السوريين المدججين بالسلاح. ويتوجه جنديان صوب طاولتي، وهما يرفعان سلاحهما روسيّ الصنع، ويطلبان مني، بفظاظة، رفع يديّ، وألّا أقوم بأي حركة، في حين كان باقي الجنود يأخذون وضعية قتالية على مدخل المقهى، وسط صدمة الرواد ورعبهم. رفعت يديّ، سحبني أحدهم من قميصي، وأخرجني من المقهى، فاجتمع عليّ رفاقه وسط الشارع، وبدأوا جميعاً يضربونني بأعقاب بنادقهم الكلاشنكوف التي كنا، نحن الفلسطينيين، نفخر بها، فهي كانت بندقية أحلامنا في التحرير.
بعد حفلة العنف الوحشية أمام المارّة والسيارات، أمام بحر بيروت ونسائمه العليلة، قادني الجنود إلى مركز الجيش السوري في عمارة مطلة على كازينو فريد الأطرش. وفي الباحة الترابية، بدأت حفلة أعنف وأكثر توحشاً، فقد حملني جنديان من يديّ، وآخران من قدميّ، يرفعونني في الهواء، ويتركونني أهبط مرتطماً على الأرض عدة مرات، إلى أن اقترح ضابط ربطي من قدميّ بناقلة الجند "بي تي آر"، ليتم سحبي عدة دورات في باحة الكازينو.
بعد الانتهاء من هذا المشهد الساديّ، قادوني إلى المركز، لتبدأ الفلقة باستخدام كابل كهربائي.
لم أعرف، حتى تلك اللحظة، سبب الاعتقال، ولا التعذيب، ولم يسألني الجنود إلا عن هويتي، وفي كل مرة، كنت أجيب أنني فلسطيني، كان التعذيب يتصاعد وحيرتي تتكثف.
تم نقلي من مركز الجيش إلى مركز لأحد فروع المخابرات السورية في "الرملة البيضاء"، وهناك، عرفت لماذا تم اختطافي، فقد كانت تهمتي، بحسب ضابط المخابرات، انتمائي إلى ما كان يسمى حينها "جبهة القوى الفلسطينية الرافضة للحلول الاستسلامية"، والتي كان النظام السوري، وقتها، يدّعي أنه قائدها الحقيقي.
بعد أن وُضع رباطٌ على عينيّ، أدخلوا شخصاً وسألوه: هل تعرفه؟ فأجاب بنعم، وأكد أنني يساريّ متفلسف، وأنني أثرثر في السياسة، وأشكك بمواقف النظام السوري المعادية لإسرائيل والامبريالية.
تعرفت على صوت المخبر، وكان فلسطينياً يعمل في صفوف الجبهة الشعبية القيادة العامة التي يتزعمها أحمد جبريل، وعرفت أنه تحول عميلاً لإسرائيل، في أثناء احتلال مخيم عين الحلوة بعد اجتياح 1982، وقامت بتصفيته، لاحقاً، المقاومة الشعبية السرية آنذاك.
بعد هذا التحقيق السريع، نقلني عميلان للمخابرات في سيارة مدنية إلى دمشق التي وصلنا إليها، حوالي منتصف الليل، لأقضي ثلاثة أيام في زنزانة تحت الأرض، في سجن أمن الدولة.
مضى حوالي نصف ساعة في تلك الزنزانة المظلمة، قبل أن أدرك أن شخصاً آخر يشاركني تلك المحنة. كان الرجل مرعوباً إلى درجة أنه لم يحرك ساكناً، ولم يتنفس حين أُدخلت عليه. كان تاجر تمور سورياً من دير الزور، مضت على وجوده تسعة شهور في عزلة تامة، متهماً ظلماً بالتعامل مع نظام البعث الآخر في العراق.
انتهت الأيام الثلاثة من غير تحقيق. حُوّلت بعدها إلى سجن "الضابطة الفدائية" في "أبو رمانة"، وهو فرع لجهاز مخابرات يسجن فيه الفلسطينيون فقط، ومنهم من مضى على وجوده هناك ثلاث سنوات لم ير فيها الشمس. أمضيت أربعة شهور ونصف الشهر، خرجت بعدها إثر "اتفاقية آب" في شتورة بين منظمة التحرير الفلسطينية والدولة اللبنانية والنظام السوري في صفقة أًفرج فيها عن مئات المعتقلين اللبنانيين والفلسطينيين.
تم تجميع المعتقلين في ثكنة عسكرية، وألقى أحد الجنرالات خطاباً قومياً بالمعتقلين، مذكّراً بأننا كنا في ضيافة سورية، حرصاً على الهدوء في لبنان، وحباً بفلسطين، حتى أنه أمر بحلق لحيتي، لكيلا يقال إن سورية لا تحسن أصول الضيافة. وهذا ما يحصل فعلاً اليوم في اليرموك.


8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.