فرنسا مجروحة لكنها تفكر

14 يناير 2015

ورود وقلم في باريس تحية إلى الضحايا (12 يناير/Getty)

+ الخط -

بعد الحزن الذي اتشحت به باريس، عقب مجزرة "شارلي إيبدو"، جاء دور الخوف من تكرار عمليات إرهابية أخرى، ما دامت التنظيمات الراديكالية قد نجحت في اختراق شباب فرنسي، وتجنيده في خلايا نائمة، وأخرى مستيقظة، في فرنسا العلمانية.
أول رد فعل للدولة الفرنسية كان الجواب الأمني، حيث اجتمع وزراء الداخلية الأوروبيون، الأحد الماضي، وقرروا حزمة إجراءات على عجل، للتخفيف من صدمة الحادثة على رجل الشارع الذي يناظر رد حكومته على القتلة. وهكذا جرى اتخاذ قرارات عدة، أهمها تشديد المراقبة على تحرك المشتبه في اعتناقهم أفكارا راديكالية، ومراجعة  إجراءات الحصول على تأشيرة شينغن، وزيادة أعمال التجسس على المواقع الجهادية على شبكة الإنترنت، والتفكير في ازالة الجنسية عن الشباب الذين رحلوا إلى العراق أو سورية للالتحاق بمعسكرات داعش والنصرة وغيرهما من التنظيمات المماثلة، بل هناك من دعا، في اليمين الفرنسي، إلى سحب جوازات السفر من المسلمين الفرنسيين الذين اختاروا الانتماء إلى الجماعات الراديكالية في الداخل والخارج،  والقيام بحملة (مكارثية) جديدة ،لاختبار الولاء لفرنسا وقيمها. وهناك من دعا الحكومة إلى التدخل لمراقبة المساجد وفرض العلمانية الفرنسية على الجاليات المسلمة، ما دامت ترفضها وتفضل عليها نماذج التدين الشرقي التي تتعارض وقيم الجمهورية. وهناك من ذهب به الخيال الأدبي إلى درجة كتابة رواية مثيرة عن فرنسا المسلمة، محذراً من أن فرنسا بعد عشرين عاماً ستصير دولة مسلمة، وستفرض الحجاب على الفرنسيات وتلزمهن بالإقامة في بيوتهن، وأن مسلماً مدعوماً من دول الخليج سيفوز في الانتخابات الرئاسية، وأن فرنسا ستصوم شهر رمضان ذلك العام.
لا يوجد فقط هذا النوع من الأجوبة العنصرية والأمنية على مجزرة "شارلي إيبدو"، حيث قتل ثلاثة شبان، نسبهم تنظيم القاعدة إليه، 17 فرنسياً، منهم ثمانية صحافيين، هم نصف هيئة تحرير المجلة الساخرة والمستفزة للأديان والرموز المقدسة. هناك أجوبة عاقلة، مثل التي رأت أحداث "شارلي إيبدو" آخر مسمار في نعش النموذج الفرنسي في إدماج الأقليات وسط الأمة، وأن الذي قُتِل ابننا والذي قَتَل ابننا كذلك، وأن سياسة تهميش الضواحي وإهمال الفئات الأكثر هشاشة من المسلمين في فرنسا جعلتهم صيداً سهلاً للتيارات الراديكالية، وأن الدم الذي سال في صالة التحرير يجب أن يدفع الجميع للمشاركة في نسج عقد اجتماعي جديد بين أطياف الأمة الفرنسية، علمانيين ومتدينين ومسيحيين ومسلمين ويهود. وهناك من قال علناً إنني لست "شارلي إيبدو"، وإذا كنتُ ضد استعمال الرصاص أمام الريشة، فهذا ليس معناه أنني مع أسلوب المجلة الاستفزازي في التهكم على الأديان، وحرمة المقدسات لا تقل أهمية عن حرمة حرية الرأي والتعبير، ولهذه الأخيرة حدود، هي عدم جرح الآخرين والاعتداء الرمزي على مشاعرهم ورموزهم الدينية، وهناك فرق كبير بين دراسة علمية أو مقالة فكرية عن نبي الإسلام وكاريكاتور مستفز يعرض على قارعة الطريق، ليس له من وظيفة إلا الاستفزاز والتحريض.
وهناك من نبه إلى خطورة تكرار أخطاء إدارة بوش عقب أحداث "١١ سبتمبر"، والتوجه نحو الخلط بين الإسلام والإرهاب، والتبشير بحرب صليبية أو غربية جديدة، لأن هذا ما تريده القاعدة، دفع الحكومات الغربية إلى اتخاذ إجراءات أمنية وعسكرية وقانونية متشددة، عقب الحادث الإرهابي، تزيد من عزل مسلمي أوروبا عن الاندماج في مجتمعاتهم. تنظيم القاعدة يسعى إلى توسيع رقعة الصراع بين المسيحية والإسلام، ودفع أكبر قدر من المعتدلين في الطرفين إلى خانة المتطرفين.
فرنسا مجروحة، لكنها تفكر، حزينة لكنها لا تخنق أي صوت له رأي في كيفية التصدي لآثار الجريمة. وهذا هو المطلوب الآن، التفكير الجماعي وعدم ترك اليمين المتطرف، أو إسرائيل والمتعاطفين معها، يفكرون ويخططون نيابة عن الأمة الفرنسية.

 

 

A0A366A1-882C-4079-9BED-8224F52CAE91
توفيق بوعشرين

كاتب وصحفي مغربي، رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم" المغربية.